ثم قال : لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ﴿الحمد لله رب العالمين﴾". وفي رواية الموطأ أنه ﷺ نادى أبيّاً وأنه قال له :"كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟
قال : أبيّ : فقرأت ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ حتى أتيت إلى آخرها"، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا : لأنّ قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القرءاة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا :
٢٩١
ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله وتبعتهم على ذلك فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ (المائدة، ٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩١
ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ، ، أي : إذا أردت أن تأكل فقل : بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي : إذا أردت السفر فتأهب، وأيضاً الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها. ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان أزال الله تعالى ذلك الوهم وبيّن أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى :
﴿إنه ليس له سلطان﴾ أي : بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. ﴿على الذين آمنوا﴾ أي : بتوفيق ربهم لهم. ﴿وعلى ربهم﴾ وحده ﴿يتوكلون﴾ أي : على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. وعن سفيان الثوريّ قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطاناً على غيرهم بقوله :
﴿إنما سلطانه﴾ أي : الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له :﴿على الذين يتولونه﴾ أي : يجيبونه ويطيعونه ﴿والذين هم به﴾ أي : بالله تعالى ﴿مشركون﴾ وقيل الضمير راجع إلى الشيطان والمعنى هم بسببه مشركون بالله. ولما كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ناسخة لها يقولون إن محمداً يستهزئ بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه نزل.
﴿وإذا بدّلنا﴾ أي : بقدرتنا بالنسخ ﴿آية﴾ سهلة كالعدّة بأربعة شهور وعشر وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة كتحريم الخمر وإيجاب الصلوات الخمس فجعلناها ﴿مكان آية﴾ شاقة كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر والتبديل رفع الشيء ووضع غيره مكانه ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة الشاملة ﴿أعلم بما ينزل﴾ من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره ﴿قالوا﴾ أي : الكفار ﴿إنما أنت﴾ يا محمد ﴿مفتر﴾ أي : متقوّل على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وهو جواب إذا. ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ اعتراض، والمعنى : والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي : هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزل فما لهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ ﴿بل أكثرهم﴾ وهم الذين يستمرّون على الكفر ﴿لا يعلمون﴾ حكمة فائدة النسخ والتبديل ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ بالردّ عليهم بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩١


الصفحة التالية
Icon