وكقوله تعالى :﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾ (النحل، ٨٩)
وقوله :﴿تدمّر كل شيء بأمر ربها﴾ (الأحقاف، ٢٥)
. وإنما ذكر تعالى
٣٢٠
تفصيلاً لأجل توكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال : فصلناه حقاً. ولما بين تعالى أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدنيا والدين مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بوجود النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله كما قال تعالى :
﴿وكل إنسان ألزمناه﴾ أي : بعظمتنا ﴿طائره﴾ أي : عمله الذي قدرناه عليه من خير وشرّ، لأن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى عمل شرّ اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه وإذا طار فهو يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه فقوله تعالى :﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه﴾ (الإسراء، ١٣)
أي : وكل إنسان ألزمناه عمله ﴿في عنقه﴾ الذي هو محل التزين بالقلادة ونحوها ومحل الشين بالغل ونحوه فإن كان عمله خيراً كان كالقلادة والحلي في العنق وهذا مما يزينه وإن كان عمله شرّاً كان كالغل في عنقه وهو مما يشينه وقال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، قال الرازي : والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والفهم والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك المقدار وإن كان ينحرف عنه بل لا بدّ وأن يصل إليه ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدرة كأنها تطير إليه وتصير إليه فلهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدّرة بلفظ الطائر فقوله تعالى ﴿ألزمناه طائره في عنقه﴾ (الإسراء، ١٣)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٨
كناية عن كل ما قدّره الله ومعنى في عنقه حصوله له فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه وإليه الإشارة بقوله ﷺ "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" انتهى ملخصاً. ثم قال تعالى :
﴿ونخرج له يوم القيامة كتاباً﴾ أي : مكتوباً فيه عمله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال الحسن : بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك، فأمّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الذي عن شمالك فيحفظ لك سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿يلقاه منشوراً﴾ صفتان لكتاباً وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف على البناء للمفعول من لقيته كذا أي : استقلبته به والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، وأمال الألف بعد القاف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ثم إنه إذا لقي كتابه يوم القيامة يوم العرض قيل له :﴿اقرأ كتابك﴾ أي : بنفسك ﴿كفى بنفسك اليوم﴾ الذي تكشف فيه الستور وتظهر جميع الأمور ﴿عليك حسيباً﴾ أي : حساباً بليغاً فإنك تعطى القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاناً ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً وإن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك فيا لها من قدرة باهرة وقوّة قاهرة ونصفة ظاهرة. قال الحسن : عدل والله في حقك من جعلك
٣٢١
حسيب نفسك. وقال السدي : يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له :﴿اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً﴾ فإن قيل : قد قال تعالى :﴿وكفى بنا حاسبين﴾ فكيف الجمع في ذلك ؟
أجيب : بأنّ المراد بالحسيب هنا الشهيد أي : كفى بشخصك اليوم شاهداً عليك أو أنّ القيامة مواقف مختلفة ففي موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط بهم وفي آخر يحاسبهم هو. وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٨


الصفحة التالية
Icon