تنبيه : روى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ وقضى ربك ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع وهذا القول كما قاله الرازي بعيد جدّاً إذ لو فتح هذا الباب لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ويندفع ما قاله بما فسر قضى به. ولما أمر تعالى بعبادة نفسه أتبعه بالأمر ببر الوالدين بقوله تعالى :﴿وبالوالدين﴾ أي : وأحسنوا أي : وأوقعوا الإحسان بهما. ﴿إحساناً﴾ أي : بأن تبروهما ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٧
تنبيهان : أحدهما المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببر الوالدين من وجوه الأوّل أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهر هو الأبوان فأمر الله تعالى بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. الثاني : أنّ الموجود إمّا قديم وإمّا محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الموجود القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله ﷺ "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وأحق الخلق بالشفقة الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان" فقوله تعالى :﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه﴾ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. وقوله تعالى :﴿بالوالدين إحساناً﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله. الثالث : أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله ﷺ "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"، وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل الأبوين لأن الولد قطعة من الوالدين قال ﷺ "فاطمة بضعة مني" وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة وإيصال الخير إلى الولد منهما أمر طبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعي أيضاً فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة بل هي أكبر من كل نعمة تصل من الإنسان إلى الإنسان وأيضاً حال ما يكون الإنسان في غاية الضعف ونهاية العجز يكون إنعام الأبوين في ذلك الوقت واصلاً إلى الولد، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه كان موقعه عظيماً وأيضاً فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فكان الإنعام فيه
٣٢٨
أتم وأكمل فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق وهو قوله تعالى :﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه﴾ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله تعالى :﴿وبالوالدين إحساناً﴾. فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهماً فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخالفات فأي : إنعام للأبوين على الولد، حتى أنّ بعض المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك فقال : اكتبوا على قبري : هذا جناية أبي علي وما جنيت على أحد. وقال في ترك التزوج والولد :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٧
وتركت فيهم نعمة العدم التي
** فيهم لقد سبقت نعيم العاجل
*ولو أنهم ولدوا لعانوا شدّة
** ترمي بهم في موبقات الآجل
وقيل لإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟
فقال : أستاذي أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد عند تعليمي فأوقعني في نور العلم، وأمّا الوالد فإن طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المأثورة المشهورة خير الآباء من علمك. أجيب : بأنه وإن كان في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع إلا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ودفع الآفات عنه من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات فسقطت تلك الشبهات.


الصفحة التالية
Icon