التنبيه الثاني : أن لفظ الآية يدل على معان كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين منها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة :﴿ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً﴾ ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة وجعل من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أنّ هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة، ومنها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث ببر الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة منها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال ﴿وبالوالدين إحساناً﴾ فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام بهما. ومنها أنه تعالى قال :﴿إحساناً﴾ بلفظ التنكير، والتنكير يدل على التعظيم أي : إحساناً عظيماً كاملاً لأنّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ.
ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السنّ قال تعالى :﴿إما﴾ مؤكداً بإدخال ما على إن الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الوالدين ﴿يبلغن عندك الكبر﴾ أي : كأن يضطرا إليك في حالة الضعف والعجز فلا يكون لهما كافل غيرك فيصيرا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوّله ﴿أحدهما أو كلاهما﴾. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الغين وكسر النون فالألف ضمير الوالدين لتقدّم ذكرهما وأحدهما بدل منه أو
٣٢٩
كلاهما عطف عليه فاعلاً أو بدلاً. فإن قيل : هلا كان كلاهما توكيداً لا بدلاً أجيب : بأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيد الاثنين فوجب أن يكون مثله. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون أحدهما بدلاً وكلاهما توكيداً ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل ؟
أجيب : بأنّ العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل، وقرأ الباقون بغير ألف وفتح النون والإعراب على هذا ظاهر، وجميع القرّاء يشدّدون النون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٧
ثم أنه تعالى أمر الإنسان في حق والديه بخمسة أشياء : الأوّل منها قوله تعالى :﴿فلا تقل لهما أفّ﴾ أي : لا تتضجر منهما قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله ﴿فلا تقل لهما أف﴾ أي : لا تتقذرهما كما أنهما كانا لا يتقذران منك حين كنت تخرأ وتبول.
وفي رواية أخرى عن مجاهد إذا وجدت منهما رائحة توذيك ﴿فلا تقل لهما أفّ﴾ فلقد بالغ سبحانه وتعالى بالوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخِّص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة وقد قال ﷺ "إياكم وعقوق الوالدين فإنّ الجنة يوجد ريحها مع مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين". وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : لا يقوم إلى خدمتهما عن كسل. وقرأ نافع وحفص بالتنوين في الفاء مع الكسر وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين.
الثاني قوله تعالى :﴿ولا تنهرهما﴾ أي : لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى :﴿وأمّا السائل فلا تنهر﴾ (الضحى، ١٠)
. فإن قيل : المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بالأولى فما فائدة ذكره ؟
أجيب : بأن المراد بالمنع من التأفيف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير والمراد من منع الانتهار المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما.
الثالث قوله تعالى :﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾ أي : حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال : هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل : إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه :﴿إني أراك وقومك في ضلال مبين﴾ مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً ؟
أجيب : بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى. والرابع قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٧


الصفحة التالية
Icon