واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة} أي : لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم
٣٣٠
لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال : وفي تقريره وجهان :
الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟
أجيب : بوجهين : الأوّل : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني : أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله :
*وغداة ريح قد كشفت وقرة
** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله :
*لا تسقني ماء الملام فإنني
** صبّ قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل بقصعة وقال له : اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم :
*راشوا جناحي ثم بلوه بالندى
** فلم أستطع من حبهم أن أطيرا
الخامس قوله تعالى :﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً﴾ أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى :﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾ (التوبة، ١١٣)
بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما. وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال : لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا. وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه ﷺ أنه قال :"من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٧
تنبيه : قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال :"جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال : يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي ؟
فقال : أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك
٣٣١


الصفحة التالية
Icon