﴿وأوفوا الكيل إذا كلتم﴾ أي : لغيركم فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا الكيل. الأمر الثالث : قوله تعالى :﴿وزنوا﴾ أي : وزناً متلبساً ﴿بالقسطاس﴾ أي : ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين وزاد في تأكيد معناه فقال :﴿المستقيم﴾ دون شيء من الحيف.
تنبيه : القسطاس رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأنّ الأعجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً وقرأ حفص والكسائي وحمزة بكسر القاف والباقون بضمها. ﴿ذلك﴾ أي : الأمر العالي الرتبة الذي أخبرناكم به من الإيفاء بالتمام والكمال ﴿خير﴾ لكم في الدارين الدنيا والآخرة من التطفيف بالكيل أو الوزن من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وإن تراءى لكم أن التطفيف خير ﴿وأحسن تأويلاً﴾ أي : عاقبة في الدارين، أما في الدنيا فلأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم رأينا من الفقراء من اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة انقلبت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم، وأمّا في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم والتأويل وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع أو أفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة بإرخاء العنان أي : على تقدير أن يكون في كل منهما خير فهذا المعنى الذي ذكرناه أزيد خيراً والعاقل لا يرضى لنفسه بالدون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٣٦
ولما شرح الله تعالى الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أوّلها قوله تعالى :
﴿ولا تقف﴾ أي : لا تتبع أيها الإنسان ﴿ما ليس لك به علم﴾ من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهو قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، واختلف المفسرون فيها فقال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقال قتادة : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم. وقيل المراد النهي عن القذف، وقيل المراد النهي عن الكذب. وقيل المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم لأنّ الله
٣٣٨
تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال تعالى :﴿إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس﴾ (النجم، ٢٣)
. وقيل القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه يقال خلفه وهو في معنى الغيبة. قال ﷺ "من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال" وراه الطبراني وغيره وردغة بسكون الدال وفتحها عصارة أهل النار. وقال الكميت :
*ولا أرمي البريء بغير ذنب
** ولا اقفو الحواصن إن قفينا
ببناء قفينا للمفعول والحواصن النساء العفائف واللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد. تنبيه : يقال قفوت أثر فلان أقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنّ البيت يقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقفاء الناس أو آثار أقدامهم ويستدلون بها على أحوال الناس. وقال تعالى :﴿ثم قفينا على آثارهم برسلنا﴾ (الحديد، ٢٧)
وسمي القفا قفاً لأنه مؤخر بدن الإنسان فإن مشى يتبعه ويقفوه. فإن قيل : إنّ هذه الآية تدلّ على منع القياس فإنه لا يفيد إلا الظنّ والظنّ مغاير للعلم ؟
أجيب : بأن ذلك عام دخله التخصيص فإنّ الحكم في الدين بمجردّ الظنّ جائز بإجماع الأمة وبأنّ المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعياً أم ظنياً واستعماله بهذا المعنى شائع ذائع وقد استعمل في مسائل كثيرة منها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ، ومنها أنّ العمل بالشهادة عمل بالظنّ، ومنها الاجتهاد في طلب القبلة ولا يفيد إلا الظنّ، ومنها قيم المتلفات وإرش الجنايات لا سبيل إليهما إلا بالظنّ، ومنها الفصد والحجامة وسائر المعالجات تبنى على الظنّ، ومنها بعث الحكمين في الشقاق. قال تعالى :﴿وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها﴾ (النساء ٣٥)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٣٦


الصفحة التالية
Icon