وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم، ومنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون وينبني على هذا الظنّ أحكام كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين، ومنها الاعتماد على صدق الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون. وقال ﷺ "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر فبطل قول من يقول أنه لا يجوز بناء الأمر على الظنّ، ثم علل تعالى النهي مخوّفاً بقوله تعالى :﴿إن السمع والبصر﴾ وهما طريقا الإدراك ﴿والفؤاد﴾ الذي هو آلة الإدراك، ثم عوّل تعالى الأمر بقوله تعالى :﴿كل أولئك﴾ أي : هذه الأشياء العظيمة العالية المنافع البديعة التكوين. تنبيه : أولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقول الشاعر :
٣٣٩
*ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى
** والعيش بعد أولئك الأيام
يجوز في ذم فتح الميم وكسرها وضمها وقوله بعد منزلة اللوى أي : بعد مفارقتها والإضافة في منزلة اللوى للبيان وهو ممدود ولكن قصره هنا للضرورة والعيش عطف على المنازل والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان له ﴿كان عنه﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿مسؤولاً﴾ بسؤال يخصه.
تنبيه : ظاهر الآية يدل على أنّ الجوارح مسؤولة وفيه وجوه الأوّل : أنّ معناه أنّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأنّ السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان كقوله تعالى :﴿واسأل القرية﴾ (يوسف، ٨٢)
أي : أهلها والمعنى أنه يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل سماعه ولم نظرت ما لم يحل نظره ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه.
الثاني : أنّ تقدير الآية أنّ أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أم في المعصية ؟
وكذا القول في بقية الأعضاء وذلك لأنّ الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملها في الخيرات استوجب الثواب، وإن استعملها في المعاصي استحق العقاب.
الثالث : أن الله تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم أنها تسأل لقوله تعالى :﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون﴾ (النور، ٢٤)
فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل والحياة والنطق في هذه الأعضاء ثم أنها تسأل روى عن شكل بن حميد قال : أتيت النبيّ ﷺ فقلت : يا نبيّ الله علمني تعويذاً أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال :"قل أعوذ بك من شرّ سمعي وشر بصري وشرّ لساني وشرّ قلبي وشرّ منيي" قال : فحفظتها، قال سعد : المني ماؤه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٣٦
النهي الثاني : قوله تعالى :
﴿ولا تمش في الأرض﴾ أي : جنسها ﴿مرحاً﴾ أي : ذا مرح وهو شدّة الفرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج : ولا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان :﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً﴾ (الفرقان، ٦٣)
وقال تعالى في سورة لقمان :﴿واقصد في مشيك واغضض من صوتك﴾ (لقمان، ١٩)
وقال تعالى فيها :﴿ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور﴾ (لقمان، ١٨)
. ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى :﴿إنك لن تخرق الأرض﴾ أي : تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك ﴿ولن تبلغ الجبال طولاً﴾ أي : بتطاولك وهو تهكم بالمختال لأنّ الاختيال حماقة مجردة لا تفيد شيئاً ليس في التذلل وفي ذلك إشارة إلى أنّ العبد ضعيف لا يقدر على خرق أرض ولا وصول إلى جبال فهو محاط به من فوقه ومن تحته بنوعين من الجمادات وهو أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله محصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي وقيل ذكر ذلك لأن من مشى خيلاء يمشي مرّة على عقبيه ومرّة على صدور قدميه فقيل له إنك لن تثقب الأرض إن
٣٤٠
مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان رسول الله ﷺ "إذا مشى تكفأ تكفأ كأنما ينحط من صبب". وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال :"ما رأيت أحسن من رسول الله ﷺ كأنّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث". وقوله تعالى :﴿كل ذلك﴾ إشارة إلى ما نهى عنه مما تقدّم فإنّ الذي تقدّم منهيات ومأمورات وجملة ذلك من قوله تعالى :﴿لا تجعل مع الله إلهاً آخر﴾ (الإسراء، ٢٢)
إلى هنا خمسة وعشرون وها أنا أسردها لك تسهيلاً عليك. فأوّلها :﴿لا تجعل مع الله إلهاً آخر﴾ (الإسراء، ٢٢)


الصفحة التالية
Icon