هذا قبل الأذن بالقتال وقيل نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو وقيل أمرالمؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن قول لا إلى إلا الله، ثم علل بقوله تعالى :﴿إن الشيطان﴾ أي : البعيد عن الرحمة المحترق باللعنة ﴿ينزغ بينهم﴾ أي : يفسد ويغري بعضهم على بعض ويوسوس لهم لتقع بينهم المشارّة والمشاقة وأصل النزغ الطعن وهم غير معصومين فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال. ثم علل تعالى هذه العلة بقوله تعالى :﴿إنّ الشيطان كان﴾ أي : في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه ﴿للإنسان عدوًّا﴾ أي : بليغ العداوة ﴿مبيناً﴾ أي : بين العداوة، ثم فسر تعالى التي هي أحسن مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
ربكم أعلم بكم﴾
فعلم أنّ قوله تعالى :﴿إن الشيطان﴾ إلى آخره جملة اعتراضية بين المفسر والمفسر وسكن أبو عمرو الميم وأخفاها عند الباء بخلاف عنه وكذا أعلم بمن ثم استأنف تعالى :﴿إن يشأ﴾ أي : رحمتكم ﴿يرحمكم﴾ أي : بهدايتكم ﴿أو إن يشأ﴾ تعذيبكم ﴿يعذبكم﴾ أي : بإضلالكم فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجرّ إلى غيظ القلوب فلا فائدة لأنّ الخاتمة مجهولة ولا تتجاوزوا فيهم ما أمركم الله به من قول وفعل. ثم رقى الله الخطاب إلى أعلى الخلق، ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنى منه فقال تعالى :﴿وما أرسلناك﴾ أي : مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء ﴿عليهم وكيلا﴾ أي : حفيظاً وكفيلاً تقسرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك على حسب ما نأمرك به بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم، وقد مرّ أنّ هذا قبل الإذن بالقتال. ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه تعالى أخبر بما هو أعم من ذلك قاصراً الخطاب على أعلم خلقه بقوله تعالى :
﴿وربك﴾ أي : المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق ﴿أعلم بمن في السموات والأرض﴾ فعلمه غير مقصور عليكم بل متعلق بجميع الموجودات والمعدومات، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، فيعلم تعالى حال كل أحد، ويعلم ما يليق به من المفاسد والمصالح، ويعلم اختلاف صورهم وأديانهم وأخلاقهم وأحوالهم وجميع ما هم عليه سبحانه وتعالى، لا تخفى عليه خافية، فيفضل بعض الناس على بعض على حسب إحاطة علمه وشمول قدرته، وبعض النبيين على بعض كما قال تعالى :﴿ولقد فضلنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿بعض النبيين﴾ سواء كانوا رسلاً أم لا ﴿على بعض﴾ بعد أن جعلنا لكل فضلاً لتقوى كل منهم وإحسانه، فخصصنا كلاً منهم بفضيلة كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد ﷺ بالإسراء، فلا ينكر أحد من العرب، أو بني إسرائيل أو غيرهم، تفضيلنا لهذا النبي الكريم، الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإذا نفعل ما نشاء بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل. وقرأ نافع بالهمزة والباقون بالياء، وورش على أصله يمد على الهمزة ويوسط ويقصر. ﴿وآتينا﴾ موسى التوراة و﴿داود زبوراً﴾ وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضاً أن نؤتي محمداً ﷺ القرآن، ولم يبعد أن نفضله على جميع الخلق. فإن قيل : ما السبب في تخصيص داود عليه السلام بالذكر هنا ؟
أجيب : بأوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض، ثم قال :﴿وآتينا داود زبوراً﴾ يعني أنّ داود أوتي ملكاً عظيماً، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أنّ الفضل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال. الثاني : أنه تعالى كتب في
٣٤٩
الزبور أنّ محمداً خاتم الأنبياء، وأنّ أمّة محمد خير الأمم قال تعالى :﴿ولقدكتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (الأنبياء، ١٠٥)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
وهم محمد ﷺ وأمّته.
فإن قيل : هلا عرفه كقوله :﴿ولقد كتبنا في الزبور﴾ ؟
أجيب : بأنّ التنكير هنا يدل على تعظيم حاله ؛ لأنّ الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً، ويجوز أنّ يكون زبوراً علماً، فإذا دخلت عليه أل كقوله تعالى :﴿ولقد كتبنا في الزبور﴾ كانت للمح الأصل كعباس، والعباس وفضل والفضل الثالث أنّ كفار قريش ماكانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في إستخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون أنّه لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود.


الصفحة التالية
Icon