وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أنّ النبي ﷺ قال :"خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ"، أي : القرآن قال البقاعي : ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا، ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك. أمّا البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأمّا النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأمّا الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع انتهى. وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
﴿قل ادعوا الذين زعمتم﴾ أنهم آلهة ﴿من دونه﴾ أي : من سواه كالملائكة وعزير والمسيح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي بضم اللام من قل وكسرها عاصم وحمزة كل هذا في حال الوصل، وأما الابتداء فالجميع ابتدؤوا بهمزة مضمومة ﴿فلا يملكون كشف الضر﴾ أي : البؤس الذي من شأنه أن يمرض الجسم كله ﴿عنكم﴾ حتى لا يدعوا شيئاً منه ﴿ولا تحويلاً﴾ له إلى غيركم. فقال ابن عباس : إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة والشمس والقمر والنجوم، وقيل : إنّ قوماً عبدوا نفراًمن الجنّ فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك القوم متمسكين بعبادتهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقيل إنّ المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي ﷺ ليدعوا لهم فنزل ﴿قل﴾ للمشركين ﴿ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه﴾ (الأنعام، ٩٤)
وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في وصفهم :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
أولئك الذين يدعون﴾
أي : يدعونهم الكفار ويتألهونهم ﴿يبتغون﴾ أي : يطلبون طلباً عظيماً ﴿إلى ربهم﴾ أي : المحسن إليهم ﴿الوسيلة﴾ أي : المنزلة والدرجة و القربة لأعمالهم الصالحة، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم. تنبيه : أولئك مبتدأ وخبره يبتغون ويكون الموصول نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله والمراد بالواو والعباد لهم، ويكون العائد على الذين محذوفاً أو المعنى أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون لكشف ضرّهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴿أيهم أقرب﴾ أي : يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل ﴿ويرجون رحمته﴾ رغبة فيما عنده ﴿ويخافون عذابه﴾ فهم كغيرهم موصوفون بالعجز
٣٥٠
والحاجة فكيف يدعونهم آلهة، وقيل معناه أن الكفار ينظرون أيهم أقرب إلى الله تعالى فيتوسلون به. ثم علل خوفهم بأمر عامّ بقوله تعالى :﴿أنّ عذاب ربك﴾ أي : المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمّتك ﴿كان﴾ أي : كوناً لازماً ﴿محذوراً﴾ جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل، فضلاً عن غيرهم لما شوهد من إهلاكه للقرون الماضية ولما قال تعالى :﴿إنّ عذاب ربك كان محذوراً﴾ بين بقوله تعالى :
﴿وإن﴾ أي : وما ﴿من قرية إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً﴾ إنَّ كل قرية، أي : أهلها لابد وأن يرجع حالهم إلى أحد أمرين : إما الإهلاك بالموت والإستئصال، وإمّا العذاب بالقتل وأنواع البلاء. وقال مقاتل : أمّا الصالحة فبالموت وأمّا الطالحة فبالعذاب. وقال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله تعالى في هلاكها. ﴿كان ذلك﴾ أي : الأمر العظيم ﴿في الكتاب﴾ أي : اللوح المحفوظ ﴿مسطوراً﴾ أي : مكتوباً. قال عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إنّ أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال : القدر ما كان وما هو كائن إلى أبد الأبد" أخرجه الترمذي. ولما كان كفار قريش قد تكرر اقتراحهم للآيات وكان ﷺ لشدة حرصه على إيمان كل أحد يحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم فأجاب الله تعالى بقوله :
﴿وما منعنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع ﴿أن نرسل بالآيات﴾ أي : التي اقترحوها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم ﴿فأتنا بآية كما أرسل الأوّلون﴾ (الأنبياء، ٥)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
وقال آخرون ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾ (الإسراء، ٩٠)


الصفحة التالية
Icon