الآيات. وقال سعيد بن جبير : أنهم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من أحيا الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فكان كأنه لا آيات عندهم سوى ذلك ﴿إلا﴾ علمنا في عالم الشهادة بما وقع من ﴿أن كذب بها﴾ أي : المقترحات ﴿الأولون﴾ وعلمنا في عالم الغيب أنّ هؤلاء مثل الأوّلين أن الشقّي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو ذلك، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها فكم أجبنا أمّة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً فأخذناهم لأنّ سنتنا جرت أنَّا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها. قال ابن عباس : سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا تلك الأراضي فطلب ﷺ ذلك من الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط إن لم يؤمنوا أهلكتهم فقال ﷺ "لا أريد ذلك" فتفضل الله تعالى برحمته هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عباده، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم فقال جلّ ذكره :﴿بل الساعة موعدها والساعة أدهى وأمرّ﴾ (القمر، ٤٦)
. ثم ذكر تعالى من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿آتينا ثمود الناقة﴾ حالة كونها ﴿مبصرة﴾ أي : مضيئة بينة جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها فيستدل بها على صدق قول ذلك النبيّ ﴿فظلموا بها﴾
٣٥١
أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها. وقال ابن قتيبة : جحدوا بأنها من الله تعالى فأهلكناهم فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى، وخص تعالى هذه الآية بالذكر لأنّ آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. ثم قال تعالى :﴿وما نرسل بالآيات﴾ أي : المقترحات وغيرها ﴿إلا تخويفاً﴾ للمرسل إليهم بها فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا بعذاب الاستئصال من كذب بالآيات المقترحات وبعذاب الآخرة من كذب بغيرها كالمعجزات وآيات القرآن فأمر من بعث إليهم مؤخراً إلى يوم القيامة.
فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدّعى فكيف حصل المقصود من إظهارها في التخويف ؟
أجيب : بأنه لما كان هو الحامل والغالب على التصديق فكأنه هو المقصود ولما طلب القوم من النبي ﷺ تلك الآيات المقترحات وأجاب الله تعالى بأنّ إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجراءة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله تعالى قلبه وبين له أنه ينصره ويؤيده فقال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٨
﴿و﴾ اذكر يا أشرف الخلق ﴿إذ قلنا لك إن ربك﴾ أي : المتفضل بالإحسان إليك بالرفق لأمتّك ﴿أحاط بالناس﴾ علماً وقدرة فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فلا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، وهو حافظك ومانعك منهم فلا تهتم باقتراحهم، وامض فيما أمرك به من تبليغ الرسالة فهو ينصرك ويقوّيك على ذلك كما وعدك بقوله تعالى :﴿والله يعصمك من الناس﴾ (المائدة، ٦٧)
وقيل : إن المراد بالناس أهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم. روي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله ﷺ في العريش مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان يدعو ويقول :"اللهمّ إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول :﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾ (القمر، ٤٥)
" وكان ﷺ يقول حين ورد بدراً :"والله كأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان" فتسامعت قريش بما أوحي إلى النبي ﷺ ثم عطف تعالى على ﴿وما نرسل بالآيات﴾ قوله تعالى :﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك﴾ أي : التي شاهدتها ليلة الإسراء ﴿إلا فتنة﴾ أي : امتحاناً واختباراً ﴿للناس﴾ لأنه ﷺ لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان قد آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كانت امتحاناً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٢
وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به وتقدم أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا. فائدة : قال بعض العلماء : كانت إسراآته ﷺ أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه
٣٥٢


الصفحة التالية
Icon