﴿ربكم﴾ أي : المتصرف فيكم هو ﴿الذي يزجي﴾ أي : يجري ﴿لكم الفلك﴾ ومنها التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه الصلاة والسلام ﴿في البحر لتبتغوا﴾ أي : لتطلبوا ﴿من فضله﴾ الربح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ثم إنه تعالى علل ذلك بقوله عز وجل :﴿إنه﴾ أي : فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه ﴿كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿بكم رحيماً﴾ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه. تنبيه : الخطاب في قوله ربكم وفي قوله إنه كان بكم عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها وأمّا قوله تعالى :
﴿وإذا مسكم الضرّ﴾ أي : الشدة ﴿في البحر﴾ خطاب للكفار بدليل قوله تعالى ﴿ضلّ﴾ أي : غاب عن ذكركم وخواطركم ﴿من تدعون﴾ أي : تعبدون من الآلهة ﴿إلا إياه﴾ وحده فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه﴿فلما نجاكم﴾ من الغرق وأوصلكم بالتدريج ﴿إلى البرّ أعرضتم﴾ عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك ﴿وكان الإنسان﴾ أي : هذا النوع ﴿كفوراً﴾ أي : جحوداً للنعم بسبب أنه عند الشدّة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره، وقوله تعالى :﴿أفأمنتم﴾ الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه ﴿أن نخسف بكم جانب البرّ﴾ فنغيبكم في، أي : جانب كان منه لأنّ قدرتنا على التغيبين في الماء والتراب على السواء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله تعالى في جميع الجوانب ﴿أو﴾ أمنتم أن ﴿نرسل عليكم﴾ من جهة الفوق شيئاً من أمرنا ﴿حاصباً﴾ أي : نمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطرناها على قوم لوط قال الله تعالى :﴿إنا أرسلنا عليهم حاصباً﴾ (القمر، ٣٤)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٦
وقيل الحاصب الريح ﴿ثم لا تجدوا لكم﴾ أيها الناس ﴿وكيلاً﴾ ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره.
﴿أم أمنتم﴾ أي : جاوزت بكم الغباوة حدّها فلم تجوّزوا ذلك ﴿أن نعيدكم فيه﴾ أي : البحر الذي يضطرّكم إلى ذلك فنقسركم عليه وإن كرهتم ﴿تارة أخرى﴾ بأسباب تضطرّكم إلى أن ترجعوا فتركبوه ﴿فنرسل عليكم قاصفاً من الريح﴾ أي : ريحاً شديدة لا تمرّ بشيء إلا قصفته فتكسر فلككم ﴿فنغرقكم﴾ في البحر الذي أعدناكم فيه بقدرتنا ﴿بما كفرتم﴾ أي : بسبب إشراككم وكفرانكم نعمة الانجاء ﴿ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً﴾ أي : مطالباً يطالبنا بما فعلنا بكم. تنبيه : تارة بمعنى مرّة وكرّة فهي مصدر وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر :
*وإنسان عيني يحسر الماء تارة
** فيبدو وتارات يجم فيغرق
٣٥٧
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم جميع هذه الخمسة بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله تعالى :﴿ربكم﴾ إلى آخره. والقراءة الثانية على سنن ما تقدّم من الغيبة. ثم إنّ الله تعالى ذكر نعمة أخرى رفيعة جليلة على الإنسان وذكر فيها أربعة أنواع : النوع الأول : قوله تعالى :
﴿ولقد كرّمنا﴾ أي : بعظمتنا تكريماً عظيماً ﴿بني آدم﴾ وحذف متعلق التكريم فلذا اختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده. وعن الرشيد أنه حضر طعاماً عنده فدعاه بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له : جاء في تفسير جدّك ابن عباس ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه. وروي عن ابن عباس أنه قال : بالعقل. وقال الضحاك : بالنطق والتمييز. وقيل على سائر الطين بالنموّ، وعلى النامي بالحياة وعلى سائر الحيوان بالنطق. وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكسة على وجوهها. قال بعضهم : وينبغي أن يشترط مع هذا شرط وهو طول القامة مع استكمال القوّة العقلية والحسية والحركية وإلا فالأشجار أطول قامة من الإنسان قيل الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل بأنّ منهم خير أمّة أخرجت للناس. وقيل بحسن الصورة. قال تعالى :﴿وصوّركم فأحسن صوركم﴾ (غافر، ٦٤)
. ولما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان وهي ﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ (الحجر، ٢٦)
الآية قال :﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (المؤمنون، ١٤)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٦
قال الرازي : فإن شئت فتأمّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهي العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق ذلك البياض سواد الشعر. وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب انتهى.


الصفحة التالية
Icon