واستدل أيضاً لشرف الإنسان بأنّ الموجود إمّا أن يكون أزلياً وأبدياً وهو الله تعالى وإمّا أن لا يكون لا أزلياً ولا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أحسن الأقسام وإمّا أن يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا ممتنع الوجود لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإمّا أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أنّ هذا القسم أشرف من الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات. النوع الثاني : قوله تعالى :﴿وحملناهم في البرّ﴾ على الدوابّ وغيرها ﴿و﴾ في ﴿البحر﴾ على السفن وغيرها، من حملته حملاً إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم في الماء.
النوع الثالث : قوله تعالى :﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ أي : المستلذات من الثمرات والأقوات، وذلك لأنّ الأغذية إمّا حيوانية وإمّا نباتية وكلا القسمين فإنّ الإنسان إنما يتغذى بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامّة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع : قوله تعالى :﴿وفضلناهم﴾ في أنفسهم بإحسان الشكل وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين ﴿على كثير ممن خلقنا﴾ أي : بعظمتنا التي خلقناهم بها. وأكد الفعل
٣٥٨
بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى :﴿تفضيلاً﴾. تنبيه : ظاهر الآية يدل على فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل. وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة. وهو قول ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في بسيطه. وقال الكلبي : فضلوا على جميع الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم. وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى جميع الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى :﴿هل أنبئكم على من تنزل الشياطين﴾ إلى قوله تعالى :﴿وأكثرهم كاذبون﴾ (الشعراء : ٢٢١، ٢٢٣)
أي : كلهم.
وروى جابر يرفعه قال :"لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه روحي كمن قلت له كن فكان". والأولى كما قاله بعض المفسرين كالبغوي وابن عادل أن يقال عوامّ الملائكة أفضل من عوام المؤمنين، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة. قال تعالى :﴿إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾ (البينة، ٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٦
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده. رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه. فإن قيل : قال تعالى في أوّل الآية :﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ وقال في آخرها :﴿وفضلناهم﴾ فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار ؟
أجيب : بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة. ولما ذكر تعالى أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة بقوله تعالى :
﴿يوم﴾ أي : اذكر يوم ﴿ندعو﴾ أي : بتلك العظمة ﴿كل أناس﴾ أي : منكم ﴿بإمامهم﴾ الإمام في اللغة كل من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبيّ إمام أمّته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين، وإمام القوم هو الذي يقتدون به في الصلاة. وذكروا في تفسير الإمام هنا أقوالاً أحدها إمامهم نبيهم. روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ "فينادى يوم القيامة يا أمّة إبراهيم يا أمّة موسى يا أمّة عيسى يا أمّة محمد ﷺ فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى الأتباع يا أتباع ثمود يا أتباع فرعون يا أتباع فلان وفلان من رؤوساء الضلال وأكابر الكفر". الثاني : أنّ إمامهم كتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. الثالث : إمامهم كتاب أعمالهم قال تعالى :﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ (يس ١٢)
فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم دون آبائهم وان الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا تفتضح أولاد الزنا. قال : وليت شعري أيهما أبدع البدع ؟
أصحة لفظه أم بهاء حكمته. قال ابن عادل : وهو معذور لأن أمّا لا يجمع على إمام
٣٥٩


الصفحة التالية
Icon