هذا قول من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب. ﴿فمن أوتي﴾ أي : من المدعوّين ﴿كتابه﴾ أي : كتاب عمله ﴿بيمينه﴾ وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا ﴿فأولئك يقرؤون كتابهم﴾ ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه من الحسنات ﴿ولا يظلمون﴾ بنقص حسنة ما من ظالم ما ﴿فتيلاً﴾ أي : شيئاً في غاية القلة والحقارة بل يزدادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاة الأعمال.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٦
تنبيه : الفتيل القشرة التي في شق النواة تسمى بذلك لأنه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل وهذا مثل يضرب للشيء الحقير التافه ومثله القطمير وهو الغلالة التي في ظهر النواة، والنقير وهي النقرة التي في ظهر النواة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال : الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبابته وإبهامه. فإن قيل : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أهل الشمال يقرؤونه ؟
أجيب : بأن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة فيستولي الخوف على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزون عن القراءة الكاملة وأمّا اصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه ثم لا يقنعون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل المحشر :﴿هاؤم اقرؤوا كتابيه﴾ (الحاقة، ١٩)
جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا منهم. ثم قال الله تعالى :
﴿ومن كان﴾ منهم ﴿في هذه﴾ أي : الدار ﴿أعمى﴾ أي : ضالاً يعمل في الأفعال فعل الأعمى في أخذ الأعيان لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضرّه ولا يميز بين حسن وقبيح ﴿فهو في الآخرة أعمى﴾ أي : أشدّ عمى مما كان عليه في هذه الدار لا ينجح له قصد ولا يهتدي لصواب ولم يقل تعالى أشدّ عمى كما يقال في الخلق اللازمة لحالة واحدة مثل العور والحمرة والسواد ونحوها لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء. ﴿وأضلّ سبيلاً﴾ لأنّ هذه الدار دار الاكتساب والترقي في الأسباب، وأمّا تلك فليس فيها شيء من ذلك. وقال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال : اقرؤوا ما قبلها فقرؤوا :﴿ربكم الذي يزجي لكم الفلك﴾ إلى قوله :﴿تفضيلاً﴾. فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلاً، وعلى هذا فالإشارة في قوله هذه إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدّمة، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر كما قال تعالى :﴿ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (الحجر، ١٢٦)
. وقال تعالى :﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً﴾ (الإسراء، ٩٧)
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم. ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٥٦
﴿وإن كادوا﴾ أي : قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك. ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى :﴿ليفتنونك﴾ أي : ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد
٣٦٠
ثقيف أتوا رسول الله ﷺ وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة، أي : لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ ﷺ "لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود". وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ﷺ ولم يجبهم فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ ﷺ فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال : أما ترون رسول الله ﷺ قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية".


الصفحة التالية
Icon