﴿تملكون خزائن﴾ عبر بصيغة منتهى الجموع لأنّ المقام جدير بالمبالغة ﴿رحمة ربي﴾ أي : خزائن رزقه وسائر نعمه وذلك غير متناه. ﴿إذاً لأمسكتم﴾ أي : لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها ﴿خشية﴾ أي : مخافة عاقبة ﴿الإنفاق﴾ أي : الموصل إلى الفقر فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح والدناءة وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشح. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ : أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده. قال الزمخشريّ : تقديره لو تملكون جرى فيه على مذهب الكوفيين من أن لو يليها الفعل مضمراً كما يليها ظاهراً والبصريون يمنعون إيلاء لها مضمراً إلا في شذوذ كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني، وأصل هذا المثل أنّ امرأة عطلاء من الحلي والهيئة لطمت حاتماً على نحر الناقة وقالت له بقسوة إنما أردناك بفصدها والفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق ثم يجمع دمها فيشوى وقيل أصله أنّ المرأة المذكوة لطمت رجلاً فقال : لو ذات سوار لطمتني لاحتملتها فصار مثلاً يضرب لكريم يلطمه الدني، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالشاهد من مضمون قولهم ﴿وكان﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿الإنسان﴾ أي : الذي من شأنه الأنس بنفسه فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها ﴿قتوراً﴾ أي : بخيلاً. تنبيه : فتح الياء في ربي نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ. فإن قيل : قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم ؟
أجيب : من وجوه الأوّل : أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بدّ وأن يحبس ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني : أنّ الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وليخرج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث : أنّ المراد بهذا الإنسان المعهود السابق وهم الذين قالوا :﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾. ولما قدم سبحانه وتعالى أن أكثر الناس جحدوا الآيات لكونه تعالى حكم بضلالهم ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه شرع يسلي نبيه محمداً ﷺ بما أتفق لمن قبله من الأنبياء بقوله تعالى :
﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات﴾ أي : واضحات
واختلف في هذه الآيات فقال ابن عباس والضحاك هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال مجاهد وعطاء : هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وقال البقاعي : وهي كما في التوراة : العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم البرد الكبار التي أنزلها الله تعالى مع النار المضطرمة فكانت تهلك كل ما مرّت عليه من نبات وحيوان ثم الجراد ثم الظلمة ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان ثم قال : وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٦
عصا قمل موت البهائم ظلمة
** جراد دم ثم الضفادع والبرد
*وموت بكور الآدميّ وغيره
** من الحيّ آتاه الذي عز وانفرد
٣٧٨
قال : وكأنه عدّ اليد مع العصا آية، ولم تفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم اه. وقال البيضاويّ : هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل وذكر محمد بن كعب القرظي الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات. وقال : كان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجراً. وقال بعضهم : هي آيات الكتاب وهي أحكام يدل عليها. ما روي عن صفوان "أن يهودياً قال لصاحبه : تعال نسأل هذا النبيّ فقال الآخر : لا تقل نبيّ، فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية :﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات﴾ فقال لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقلته ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تفروا من الزخف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلوا يده، وقالوا : نشهد أنك نبيّ. قال : فما منعكم أن تتبعوني ؟
قالوا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود".
وقال الرازيّ : علم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السلام، أحدها : أنه تعالى أزال العقدة من لسانه، قيل في التفسير ذهب أعجم وجاء فصيحاً. ثانيها : انقلاب العصا حية. ثالثها : تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. رابعها : اليد البيضاء. وخمسة أخرى وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله تعالى :﴿وإذ فرقنا بكم البحر﴾ (البقرة، ٥٠)
والحادي عشر الحجر، وهو قوله تعالى :﴿أن اضرب بعصاك الحجر﴾، (الأعراف، ١٦٠)


الصفحة التالية
Icon