وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه : الأوّل : أنه ﷺ قال حاكياً عن رب العزة :"من آذى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة" فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة :"يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، استسقيتك فما سقيتني، استطعمتك فما أطعمتني، فيقول : يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول : إنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي". وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة. فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلباً أو دودة.
الوجه الثاني : أنه ﷺ قال عن رب العزة :"ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ولساناً ويداً ورجلاً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي". وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب
٤٠٩
لغير الله تعالى لما قال : أنا سمعه وأنا بصره، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة من الماء في مفازة.
الوجه الثالث : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
واحتج المنكر للكرامات بوجوه : الأوّل : أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلاً على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة.
الوجه الثاني : أنّ الله تعالى قال :﴿وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس﴾ (النحل، ٧).
والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أنّ النبيّ ﷺ لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد.
الوجه الثالث : أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهماً واحداً فهل يطلب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثاً لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله ﷺ "البينة على المدّعي".
فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل، وأجيب عن الأوّل بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية ؟
فقال قوم من المحققين إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره، والكرامة لا يجب ظهورها، وأجيب عن الثاني بأنّ قوله تعالى :﴿وتحمل أثقالكم﴾ إلى آخره محمول على المعهود المتعارف، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف، وأجيب عن الثالث بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله ﷺ "البينة على المدّعي". ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفاً وجلاً ولهذا قال المحققون : أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء.
والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه : الأوّل : أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب
٤١٠
عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور. الوجه الثاني : أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلاً إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى :﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ (فاطر، ١٠)


الصفحة التالية
Icon