﴿يريدون﴾ بعبادتهم ﴿وجهه﴾ تعالى، أي : رضاه وطاعته لا شيئاً من أعراض الدنيا ﴿ولا تعد﴾، أي : تنصرف ﴿عيناك عنهم﴾ إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى ﷺ أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى :﴿تريد زينة الحياة الدنيا﴾ في موضع الحال، أي : إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى :﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾، أي : جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، أي : عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف ﴿واتبع هواه﴾، أي : في طلب الشهوات ﴿وكان أمره فرطاً﴾، أي : إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى :﴿أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى :﴿واتبع هواه﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١١
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وأنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله ﷺ وقال :"ما الذي كنتم تصنعون ؟
قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من القرآن ونحن نسمع فقال رسول الله ﷺ الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا وقال : أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة فتدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة سنة". ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا : إن طردت الفقراء آمنا بك. قال تعالى بعده :
﴿وقل الحق﴾، أي : وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائناً ﴿من ربكم﴾ المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده ﴿فمن شاء﴾، أي : منكم ومن غيركم ﴿فليؤمن﴾ بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه ﴿ومن شاء﴾ منكم ومن غيركم ﴿فليكفر﴾ فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي
٤١٢
استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : هذه الصيغة تهديد ووعيد، أي : فهي كقوله تعالى :﴿اعملوا ما شئتم﴾ (فصلت، ٤٠)
فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر بعود على الكافر كما قال تعالى :﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ (الإسراء، ٧)


الصفحة التالية
Icon