﴿فقال﴾، أي : هذا الكافر ﴿لصاحبه﴾، أي : المسلم المجعول مثلاً للفقراء المؤمنين ﴿وهو﴾، أي : صاحب الجنتين ﴿يحاوره﴾، أي : يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا ﴿أنا أكثر منك مالاً﴾ لما ترى من جناتي وثماري، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء وهو وضمها الباقون ورقق ورش راء يحاوره ﴿وأعز نفراً﴾، أي : ناساً يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالباً وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
﴿ودخل جنته﴾ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخرهُ بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة ﴿وهو﴾، أي : والحال أنه ﴿ظالم لنفسه﴾ لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه، ثم
٤١٦
استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى :﴿قال ما أظنّ أن تبيد﴾، أي : تنعدم ﴿هذه﴾، أي : الجنة ﴿أبداً﴾ لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله :
﴿وما أظنّ الساعة قائمة﴾، أي : كائنة استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه وقوله :﴿ولئن رددت إلى ربي﴾ المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة ﴿لأجدنّ خيراً منها﴾، أي : من هذه الجنة ﴿منقلباً﴾، أي : مرجعاً لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعاً وتمنياً على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله : أنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالاً وولداً.
﴿قال له صاحبه﴾، أي : المؤمن ﴿وهو﴾، أي : والحال أنّ ذلك الصاحب ﴿يحاوره﴾، أي : يراجعه منكراً عليه ﴿أكفرت بالذي خلقك من تراب﴾، أي : خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ﴿ثم من نطفة﴾ متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة ﴿ثم سوّاك﴾، أي : عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة ﴿رجلاً﴾، أي : كملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه، ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٤
﴿لكنا﴾ أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل :
*وترمينني بالطرف، أي : أنت مذنب
** وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال :﴿هو﴾، أي : الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك ﴿الله﴾، أي : المحيط بصفات الكمال ﴿ربي﴾ وحده لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفاً ووصلاً لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفاً وحذفها وصلاً. فإن قيل : قوله لكنا استدراك لماذا ؟
أجيب : بأنه لقوله ﴿أكفرت﴾ فكأنه قال لأخيه : أكفرت بالله لكني مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
وذكر القفال في قول المؤمن :﴿ولا أشرك بربي﴾، أي : المحسن إليّ في عبادتي ﴿أحداً﴾ وجوهاً أحدها : أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى، ولا أكفر عندما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال
٤١٧
والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها : لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها : أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٧


الصفحة التالية
Icon