نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى :﴿وما كنت متخذ المضلين﴾ أي : الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لإضلالهم وذمّاً لهم ﴿عضداً﴾ أي : أعواناً، وثانيها قال الرازي : وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي ﷺ إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال : والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى :﴿بئس للظالمين بدلاً﴾ والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله ما أشهدتهم إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم اللّه بسعادته والشقي من حكم اللّه بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال : ما أشهدتهم إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به. ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال :
٤٢٦
﴿ويوم﴾ التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفاً على قوله وإذ قلنا للملائكة ﴿يقول﴾ أي : اللّه يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكماً بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء ﴿نادوا شركائي﴾ أي : ما عبد من دوني وقيل : إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى :﴿الذين زعمتم﴾ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي ﴿فدعوهم﴾ تمادياً في الجهل والضلال ﴿فلم يستجيبوا لهم﴾ أي : فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم ﴿وجعلنا بينهم﴾ أي : المشركين والشركاء ﴿موبقاً﴾ أي : وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد اللّه بن عمر أنه قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري : عداوة أي : يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي اللّه تعالى عنه : لا يكون حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً أي : لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل : الموبق البرزخ البعيد أي : وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٤
ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى :
﴿ورأى المجرمون﴾ أي : العريقون في الإجرام ﴿النار﴾ من مكان بعيد ﴿فظنوا﴾ ظناً ﴿أنهم مواقعوها﴾ أي : مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى :﴿إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً﴾ (الفرقان، ١٢)
فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها : مواقعة ﴿ولم﴾ أي : والحال أنهم لم ﴿يجدوا عنها مصرفاً﴾ أي : مكاناً ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا : اتخذوا اللّه ولداً بغير علم وما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة إن نظنّ إلا ظناً وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل : الظن هنا بمعنى العلم واليقين.
ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن اللّه تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٤
٤٢٧


الصفحة التالية
Icon