﴿ولقد صرّفنا﴾ وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون ﴿في هذا القرآن﴾ أي : القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني ﴿للناس﴾ أي : المزلزلين والثابتين وقوله :﴿من كل مثل﴾ صفة لمحذوف أي : مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى :﴿وكان الإنسان أكثر شيء﴾ يتأتى منه الجدال وميز الأكثرية بقوله تعالى :﴿جدلاً﴾ أي : خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل : أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن : وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه ﷺ طرقه وفاطمة بنت رسول اللّه ﷺ ورضي اللّه تعالى عنها ليلة فقال : ألا تصليان ؟
فقلت : يا رسول اللّه أنفسنا بيد اللّه فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول اللّه ﷺ حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجداً له في القرآن، وقال الكلبي : أراد به خلفاً الجمحي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٧
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى :
﴿وما منع الناس﴾ أي : الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله :﴿أن يؤمنوا﴾ ليفيد التجديد وذمّهم على الترك ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿جاءهم الهدى﴾ أي : القرآن على لسان رسوله ﷺ وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى :﴿ويستغفروا ربهم﴾ أي : لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال :﴿إلا أن﴾ أي : طلب أن ﴿تأتيهم سنة الأوّلين﴾ أي : سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم ﴿أو﴾ طلب أن ﴿يأتيهم العذاب قبلاً﴾ أي : مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى اللّه تعالى نبه بقوله تعالى :
﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين﴾ بالثواب على أفعال الطاعة ﴿ومنذرين﴾ بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم ﴿ويجادل الذين كفروا﴾ أي : يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا ﴿بالباطل﴾ من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير اللّه من الأمر شيء ﴿ليدحضوا به﴾ أي : ليبطلوا بجدالهم ﴿الحق﴾ أي : القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم ﴿واتخذوا آياتي﴾ أي : القرآن ﴿وما أنذروا﴾ أي : وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب ﴿هزوا﴾ أي : استهزاء وقرأ
٤٢٨
حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل.
ولما حكى اللّه تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى :
﴿ومن أظلم﴾ أي : لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير ﴿ممن ذكر بآيات ربه﴾ أي : المحسن إليه بها وهي القرآن ﴿فأعرض عنها﴾ تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر ﴿ونسي ما قدّمت يداه﴾ من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى :﴿أنا جعلنا على قلوبهم﴾ فجمع رجوعاً إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد ﴿أكنة﴾ أي : أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات القرآن فقال :﴿أن﴾ أي : كراهة أن ﴿يفقهوه﴾ أي : يفهموه ﴿وفي آذانهم وقراً﴾ أي : ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ولا يعون حق الوعي ﴿وإن تدعهم﴾ أي : تكرّر دعاءهم كل وقت ﴿إلى الهدى﴾ لتنجيهم بما عندك من الحرص والجد على ذلك ﴿فلن يهتدوا﴾ أي : بسبب دعائك ﴿إذا﴾ أي : إذا دعوتهم ﴿أبداً﴾ لأن اللّه تعالى حكم عليهم بالضلال فلا يقع منهم إيمان ثم قال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٧


الصفحة التالية
Icon