وربك} مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه حال الوصف من الإحسان ﴿الغفور﴾ أي : البليغ المغفرة الذي يستر الذنوب إمّا بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت آخر ﴿ذو الرحمة﴾ أي : الموصوف بالرحمة الذي يعامل وهو قادر مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام، ثم استشهد تعالى على ذلك بقوله تعالى :﴿لو يؤاخذهم﴾ أي : هؤلاء الذين عادوك وهو عالم أنهم لا يؤمنون أو يعاملهم معاملة المؤاخذة ﴿بما كسبوا﴾ من الذنوب ﴿لعجل لهم العذاب﴾ أي : في الدنيا ﴿بل لهم موعد﴾ وهو إمّا يوم القيامة وإمّا في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ﴿لن يجدوا من دونه﴾ أي : الموعد ﴿موئلاً﴾ أي : ملجأ ينجيهم منه فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأوّل ظلمهم وآخره وقوله تعالى :
﴿وتلك﴾ مبتدأ وقوله تعالى :﴿القرى﴾ أي : الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم صفته لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر ﴿أهلكناهم﴾ والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم ﴿لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً﴾ أي : وقتاً معلوماً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي : لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام والباقون بضم الميم وفتح اللام أي : لإهلاكهم، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى :﴿وإذ قلنا للملائكة﴾ (الكهف، ٥٠)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٧
﴿وإذ﴾ أي : واذكر لهم حين ﴿قال موسى لفتاه﴾ يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل : كان يأخذ منه العلم وقيل فتاه عبده، وفي الحديث :"ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي".
تنبيه : أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب
٤٢٩
المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة، وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران، قال البغوي : والأول أصح واحتج له القفال بأن اللّه تعالى لم يذكر في كتابه موسى إلا أراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المراد شخصاً آخر يسمى موسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف عن أبي حنيفة هذا الرجل المعين، فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواه لقيدناه مثل أن نقول : قال أبو حنيفة الدينوري : وعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدوّ اللّه ونوف البكالي هو نوف بن فضالة الحميريّ الشامي البكالي، ويقال : إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار نقله ابن كثير، وحجة الذين قالوا : موسى هذا غير صاحب التوراة أنه يقال بعد أن أنزل عليه التوراة وكلمه بلا واسطة وخصه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكبر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التعلم والاستفادة وأجيب : بأنه لا يبعد أن يكون العالم الكامل في كثرة العلوم يجهل بعض العلوم فيحتاج في تعلمها إلى من هو دونه وهو أمر متعارف.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
روى البخاري حديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي : الناس أعلم قال : أنا فعتب اللّه تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال : يا رب فكيف لي به قال : تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم قال :﴿لا أبرح﴾ أي : لا أزال أسير في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله ﴿حتى أبلغ مجمع البحرين﴾ أي : ملتقى بحر الروم وبحر فارس ممايلي الشرق قاله قتادة أي : المكان الجامع لذلك فألقاه هناك ﴿أو أمضي حقباً﴾ أي : دهراً طويلاً في بلوغه إن لم أظفر به بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعد إليّ في لقائه والحقب، قال في "القاموس" ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون انتهى فسارا وتزوّدا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع كما قال تعالى :
﴿فلما بلغا مجمع بينهما﴾ أي : بين البحرين قال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني وناما واضطرب الحوت في المكتل وخرج وسقط في البحر فلما استيقظا ﴿نسيا حوتهما﴾ أي : نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى عليه السلام تذكيره وقيل : الناسي يوشع فقط وهو على حذف مضاف أي : نسي أحدهما كقوله تعالى :﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن، ٢٢)
﴿فاتخذ﴾ الحوت ﴿سبيله في البحر﴾ أي : جعله بجعل اللّه ﴿سرباً﴾ أي : مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وذلك أنّ اللّه تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته، وقد ورد في حديثه في الصحيح أنّ اللّه تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء فصار طاقاً لا يلتئم وكأنّ المجمع كان ممتداً فظن عليه السلام أنّ المطلوب أمامه أو ظنّ المراد مجمع البحرين آخراً فسارا


الصفحة التالية
Icon