﴿قال﴾ موسى :﴿لا تؤاخذني﴾ يا خضر ﴿بما نسيت﴾ أي : غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن عباس : إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام أي : وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل : إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب، أي : سعة فكأنه نسي شيئاً آخر وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك. وروي عن النبي ﷺ أنه قال :"كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً" ﴿ولا ترهقني من أمري عسراً﴾ أي : لا تكلفني مشقة يقال : أرهقه عسراً وأرهقته عسراً أي : كلفته ذلك، يقول : لا تضيق علي أمري ولا تعسر متابعتك علي ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر، وعسراً مفعول ثان لترهقني من أرهقه كذا إذا حمله إياه وغشاه به وما في بما نسيت مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء، وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق، وروي أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة فإن قيل : قول موسى عليه السلام أخرقتها لتغرق أهلها إن كان صادقاً في هذا دل ذلك على صدور ذنب عظيم من الخضر إن كان نبياً، وإن كان كاذباً دل ذلك على صدور الذنب من موسى وأيضاً فقد التزم موسى أن لا يعترض عليه وجرت العهود المذكورة بذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب أجيب : بأن كلاً منهما صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فإنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى بما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر أنه لا يقدم على منكر.
﴿فانطلقا﴾ بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب ﴿حتى إذا لقيا غلاماً﴾ قال ابن عباس : لم يبلغ الحنث ﴿فقتله﴾ حين لقيه كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط، قال البغوي في القصة : إنهما خرجامن البحر يمشيان فمرّ بغلمان يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال السدي : كان أحسنهم وجهاً كان وجهه يتوقد حسناً، قال البغوي :
٤٣٥
وروينا أنه أخذ رأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بيده بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة، وقيل : ضرب رأسه بالجدار فقتله وكونه لم يبلغ الحنث هو قول الأكثرين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٣
وقال الحسن : كان رجلاً، قال شعيب الحياني : وكان اسمه جيسور، وقال الكلبي : كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلتجئ إلى أبويه، وقال الضحاك : كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه، وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ﷺ "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً". قال الرازي : وليس في القرآن كيف لقياه، هل كان يلعب مع جمع من الغلمان أو كان منفرداً ؟
وهل كان مسلماً أوكافراً ؟
وهل كان بالغاً أو صغيراً ؟
وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بغير نفس أليق بالبالغ منه بالصبيّ لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، قال البقاعي : إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ، وقال ابن عباس : ولم يكن نبي اللّه يقول : أقتلت نفساً زاكية بغير نفس إلا وهو صبيّ، قال الرازي أيضاً : وكيفية قتله هل قتله بأن حزّ رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام انتهى. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع ﴿قال﴾ موسى :﴿أقتلت﴾ يا خضر ﴿نفساً زاكية بغير نفس﴾ قتلتها ليكون قتلها لها قوداً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الزاي وتخفيف الياء التحتية والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد التحتية، قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعنى هذه الطهارة، وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب والزكية التي اذنبت ثم تابت ثم استأنف قوله :﴿لقد﴾ أظهر الدال نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون ﴿جئت﴾ في قتلك إياها ﴿شيئاً﴾ وصرح بالإنكار في قوله :﴿نكراً﴾ لأن مباشرة الخرق سبب، ولهذا قال بعضهم : النكر أعظم من الأمر في القبح لأن قتل الغلام أعظم من خرق السفينة لأنه يمكن أن لا يحصل الغرق، وأمّا هنا فقد حصل الإتلاف قطعاً، والنكر ما أنكرته العقول ونفرت منه النفوس فهو أبلغ في القبح من الأمر، وقيل : الأمر أعظم لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد، وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبة برفع الكاف والباقون بكسونها.
ولما كانت هذه ثانية.


الصفحة التالية
Icon