فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب} أي : التوراة ﴿من قبلك﴾ أي : فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل : هو النبيّ ﷺ في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى :﴿يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين﴾ (الأحزاب، ١) وقوله تعالى :﴿لئن أشركت ليحبطنّ عملك﴾ (الزمر، ٤٦). وقوله تعالى لعيسى عليه السلام :﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله﴾ (المائدة، ١١٦) ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه : الأوّل : قوله تعالى في آخر السورة :﴿يا أيها الناس﴾ فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني : أنه ﷺ لو كان شاكاً في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث : إذا قدر أن يكون شاكاً في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار ؟
فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه ﷺ إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيراً في قلوبهم، وقيل : الخطاب للنبيّ ﷺ على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه ﷺ لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول : يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال ﷺ "لا أشك ولا أسأل أحداً منهم"، ونظير هذا قوله للملائكة :﴿أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون﴾ (سبأ، ٤٠) والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليه السلام :﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين﴾ (المائدة، ١١٦) والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي : إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى :﴿لقد جاءك الحق من ربك﴾ أي : الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه ﴿فلا تكونن من الممترين﴾ أي : الشاكين فيه، وفي قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين﴾
أي : الذين خسروا أنفسهم
﴿إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك﴾ أي : ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم ﴿لا يؤمنون﴾ أي : يموتون كفاراً فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
﴿ولو جاءتهم كل آية﴾ فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد.
٤٢
القصة الثالثة : قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧
﴿فلولا﴾ أي : فهلا ﴿كانت قرية﴾ واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها ﴿آمنت﴾ أي : آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب ﴿فنفعها﴾ أي : فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها ﴿إيمانها﴾ بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى :﴿إلا قوم يونس﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس ﴿لما آمنوا﴾ أي : لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله ﴿كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا﴾ ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل : ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ﴿ومتعناهم إلى حين﴾ أي : إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره : أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له : إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا : إنا لم نجرب عليك كذباً، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣


الصفحة التالية
Icon