فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب : غامت السماء غيماً عظيماً، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم. وكل ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم حتى أنّ الرجل
٤٣
كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟
فقال لهم : قولوا يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوها، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : اللَّهمَّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات.
فإن قيل : قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم، فما الفرق بين الحالين ؟
أجيب : بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه. قال الله تعالى :
﴿ولو شاء ربك﴾ يا محمد ﴿لآمن﴾ بك وصدّقك ﴿من في الأرض كلهم﴾ بحيث لم يشذ منهم أحد ﴿جميعاً﴾ أي : مجتمعين على ذلك في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ولكن لم يشأ أن يصدّقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل، وفي هذا تسلية للنبيّ ﷺ فإنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له السعادة الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم. وهو قوله تعالى :﴿أفأنت تكره الناس﴾ أي : الذين لم يرد الله إيمانهم ﴿حتى يكونوا مؤمنين﴾ أي : ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه وتحرص عليه، إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئة الله تعالى وقضائه وليس لأحد ذلك سواه. كما قال تعالى :﴿وما كان﴾ أي : وما ينبغي وما يتأتى ﴿لنفس﴾ أي : واحدة فما فوقها ﴿أن تؤمن﴾ أي : يقع منها إيمان في وقت مّا ﴿إلا بإذن الله﴾ أي : بإرادته لها بالإيمان، فإنّ هدايتها إلى الله فهو المهدي والمضل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣
وقال ابن عباس بأمر الله. وقال عطاء : بمشيئة الله. ﴿ويجعل﴾ الله ﴿الرجس﴾ أي : العذاب والخذلان فإنه سببه. وقرأ شعبة وحده بالنون ﴿على الذين لا يعقلون﴾ أي : لا يتدبرون في آيات الله تعالى، فينتفعوا بها وهم يدعون أنهم أعقل الناس ويتساقطون في مساوئ الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. ولما بين الله تعالى في الآيات السابقة أنّ الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل بقوله تعالى :
﴿قل انظروا﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات ﴿ماذا﴾ أي : الذي ﴿في السموات والأرض﴾ من الآيات وواضح الدلالات من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته، ففي العالم العلوي الشمس والقمر وهما دليلان على الليل والنهار والنجوم وحركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها، والكواكب وما يختص بذلك من المنافع، وفي العالم السفلي الجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان، وأخصها حال الإنسان. كل ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وانه خالقها، كما قال القائل :
*وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد
٤٤
وقرأ عاصم وحمزة في الوصل بكسر اللام والباقون بضمها، وأمّا الهمزة من انظروا فكل القراء يبتدؤون بالضم ﴿وما تغني الآيات﴾ أي : وإن كانت في غاية الوضوح ﴿والنذر﴾ جمع نذير، أي : الرسل ﴿عن قوم لا يؤمنون﴾ في علم الله تعالى وحكمه.
تنبيه : قال النحويون : ما هنا تحتمل وجهين الأوّل : أن تكون نفياً بمعنى أنّ هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله تعالى عليه بأنه لا يؤمن كقولك : لا يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني : أن تكون استفهاماً كقولك، أي : شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار.


الصفحة التالية
Icon