﴿أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي﴾ من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح والأموات كالأصنام ﴿من دوني﴾ وقوله تعالى :﴿أولياء﴾ أي : أرباباً مفعول ثان ليتخذوا، والمفعول الثاني لحسب محذوف والمعنى أظنوا أنّ الاتخاذ المذكور ينفعهم ولا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها وهم على مراتبهم في المدّ. ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري ليس الأمر كذلك حسن جداً قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم ﴿إنا أعتدنا جهنم﴾ التي تقدم أنا عرضناها لهم ﴿للكافرين﴾ أي : هؤلاء وغيرهم ﴿نزلاً﴾ أي : هي معدة لهم كالمنزل المعد للضعيف وهذا على سبيل التهكم ونظيره قوله تعالى :﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران، ٢١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٤٩
ثم ذكر تعالى ما فيه تنبيه على جهل القوم فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿قل﴾ لهم ﴿هل ننبئكم﴾ أي : نخبركم وأدغم الكسائي لام هل في النون والباقون بالإظهار ﴿بالأخسرين أعمالاً﴾ أي : الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً، واختلفوا فيهم فقال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص : هم اليهود والنصارى وهو قول مجاهد، قال سعد بن أبي وقاص : أما اليهود فكذبوا بمحمد ﷺ وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا : لا طعام فيها ولا شراب انتهى. قال البقاعي : وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني، وقيل : هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع.
تنبيه : أعمالاً تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى :﴿الذين ضلّ﴾ أي : ضاع وبطل ﴿سعيهم في الحياة الدنيا﴾ لكفرهم.
تنبيه : محل الموصول الجر نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحاً فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم واجتهادهم في
٤٥١
الحياة الدنيا ﴿وهم يحسبون﴾ أي : يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر ﴿أنهم يحسنون صنعاً﴾ أي : عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥١
أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿الذين كفروا بآيات ربهم﴾ أي : بدلائل توحيده من القرآن وغيره ﴿ولقائه﴾ أي : رؤيته لأنه يقال : لقيت فلاناً أي : رأيته فإن قيل : اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى : فالتقى الماء على أمر قد قدر وذلك في حق اللّه تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب اللّه تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب : بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول : إن المراد لقاء ثواب اللّه قال : لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى :﴿فحبطت﴾ أي : فبسبب جحدهم الدلائل بطلت ﴿أعمالهم﴾ فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى :﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ قولان ؛ أحدهما : أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب : ما لفلان عندي وزن أي : قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول اللّه ﷺ أنه قال :"ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة"، وقال : اقرؤوا إن شئتم ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾"، الثاني : لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري : تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى :﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى :
﴿ذلك﴾ أي : الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم ﴿جزاؤهم﴾ ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى :﴿جهنم﴾ وصرّح بالسببية بقوله تعالى :﴿بما كفروا﴾ أي : بما أوقعوا التغطية للدلائل ﴿واتخذوا آياتي﴾ الدالة على واحدانيتنا ﴿ورسلي﴾ المؤيدين بالمعجزات الظاهرات ﴿هزوا﴾ أي : مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله :