وقيل : هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي ﷺ متى كنت نبياً قال كنت وآدم بين الروح والجسد وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقال الحسن أُلهم التوراة وهو في بطن أمه. الصفة الرابعة قوله :
﴿وجعلني مباركاً﴾ بأنواع البركات ﴿أينما﴾ أي في أي مكان ﴿كنت﴾ وذكروا في تفسير المبارك وجوها :
٤٦٨
أحدها : أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٨
ثانيها : إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله، روى الحسن عن النبيّ ﷺ أنه قال : سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال : أيّ شيء أكتب ؟
فقال : اكتب أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد ؟
فعلاه بالدرّة ليضربه فقال : يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك ؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى".
ثالثها : البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال : جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء.
رابعها : مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً
تنبيه : قوله : أينما كنت يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف.
الصفة الخامسة قوله :﴿وأوصاني بالصلاة﴾ له طهرة للنفس ﴿والزكاة﴾ طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري ﴿ما دمت حيا﴾ ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه.
فإن قيل : كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله ﷺ "رفع القلم عن ثلاث" الحديث. أجيب بوجهين ؛ الأوّل : أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ، الثاني : أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى :﴿إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ (آل عمران، ٥٩)
فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام، قال الرازي : وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله ما دمت حياً فهذ يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته.
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٨
أجيب : بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء
٤٦٩
الصلاة والزكاة والآية والة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل.
الصفة السادسة قوله :
﴿وبرّا﴾ أي : وجعلني بارا ولما كان السياق لبراءة والدته قال :﴿بوالدتي﴾ أي : التي أكرمها الله تعالى بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر وفي ذلك إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها.
الصفة السابعة : قوله :﴿ولم يجعلني جباراً﴾ متعاظماً ﴿شقياً﴾ أي : عاصياً بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق إنما أفعل ذلك بمن يستحق وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال قلبي لين وإني ضعيف في نفسي وعن بعض العلماء لا أجد العاق إلا جباراً شقياً ولا أجد سي الملكية إلا مختالاً فخوراً وتلا وما ملكت أيمانكم أنّ الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً الصفة الثامنة : قوله :
﴿والسلام﴾ من الله ﴿عليّ﴾ فلا يقدر أحد على ضرّى ﴿يوم ولدت﴾ فلا يضرني شيطان ﴿ويوم أموت﴾ فلا يضرني أيضاً ومن يولد ويموت فليس بإلاه ﴿ويوم أبعث حياً﴾ يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام وفي ذلك إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر وإذا كان جنس السلام عليه كان اتباعه كذلك ولم يبق لأعدائه إلا اللعن، ونظيره قول موسى عليه السلام ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ (طه، ٤٧)
بمعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى


الصفحة التالية
Icon