﴿ذلك﴾ أي : الذي تقدّم نعته بقوله :﴿إني عبد الله﴾ إلى آخره هو ﴿عيسى بن مريم﴾ لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى :﴿قول الحق﴾ قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي : هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى ﴿الذي فيه يمترون﴾ أي : يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعاً للشك أصلاً ثم دل على كونه حقاً في كونه ابناً لأمّه مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضلّ
﴿ما كان﴾ أي : ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة ﴿لله﴾ الغني عن كل شيء ﴿أن يتخذ من ولد﴾ وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى :﴿سبحانه﴾ أي : تنزه عن كل نقص أي : من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل ﴿إذا قضى أمراً﴾ أي : أيّ أمر كان أي : أراد أن يحدثه ﴿فإنما يقول له كن﴾ أي : يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى :﴿فيكون﴾ قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو وقوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٨
وإنّ الله ربي وربكم﴾ إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم ﴿فاعبدوه﴾ وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى :﴿وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً﴾ (الحجر، ١٨)، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل : إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء ﴿هذا﴾ أي : الذي أمرتكم به ﴿صراط﴾ أي : طريق
٤٧٠
﴿مستقيم﴾ أي : يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة، واختلف في قوله تعالى :
﴿فاختلف الأحزاب من بينهم﴾ فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل : هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً، وقيل : هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ ﷺ قال ابن عادل : وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى :﴿فويل للذين كفروا﴾ أي : شدّة عذاب لهم ﴿من مشهد يوم عظيم﴾ أي : حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى :
﴿أسمع بهم وأبصر﴾ أي : بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم ﴿يوم يأتوننا﴾ في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى :﴿لكن الظالمون﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم ﴿اليوم﴾ أي : في الدنيا ﴿في ضلال مبين﴾ أي : بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي : اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل : معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً ﷺ أن ينذر قومه بقوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٨
﴿وأنذرهم﴾ أي : خوّفهم ﴿يوم الحسرة﴾ هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله ﷺ "ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع" وفي قوله تعالى :﴿إذ قضى الأمر﴾ وجوه :
أحدها : إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها : إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.