ثالثها : قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ ﷺ سئل عن قوله تعالى :﴿إذ قضي الأمر﴾ فقال :"حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم" وقوله تعالى :﴿وهم في غفلة وهم لا يؤمنون﴾ جملتان حاليتان وفيهما قولان ؛ أحدهما : أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي : استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني : أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي : أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان
٤٧١
سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم : إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧١
إنّا نحن﴾ بعظمتنا التي اقتضت ذلك ﴿نرث الأرض﴾ فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال ﴿ومن عليها﴾ أي : من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ﴿وإلينا﴾ لا إلى غيرنا ﴿يرجعون﴾ فنجازيهم بأعمالهم.
القصة الثالثة : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿واذكر في الكتاب إبراهيم﴾ أي : خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك ؛ لأنه ﷺ ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب ومعجزاً باهراً دالاً على نبوّته، وإنما ذكر الاعتبار بقصة إبراهيم عليه السلام لوجوه :
الأوّل : أنّ منكري التوحيد والذين أثبتوا توحيداً ومعبوداً سوى الله تعالى فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى حياً عاقلاً وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى جماداً ليس بحيّ ولا عاقل وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم فلما بين الله تعالى ضلال الفريق الأوّل تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان.
الثاني : أنّ إبراهيم عليه السلام كان أبا العرب وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى أبيكم إبراهيم، وقال تعالى :﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾ (البقرة، ١٣٠)
فكأنه تعالى قال للعرب : إن كنتم مقلدين لأبيكم على قولكم :﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة﴾ (الزخرف، ٢٢)
فأشرف آبائكم وأعلاهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إمّا تقليداً وإمّا استدلالاً.
الثالث : أنّ كثيراً من الكفار في زمان النبيّ ﷺ كانوا يقولون نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ثم قال تعالى في صفة إبراهيم ﴿إنه كان﴾ جبلةً وطبعاً ﴿صدّيقاً﴾ أي : بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله أي : كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة وسيأتي الكلام على قوله :﴿بل فعله كبيرهم هذا﴾ (الأنبياء، ٦٣)
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧١
وإني سقيم﴾ (الصافات، ٨٩)
في محله ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى :﴿نبيا﴾ أي : استنبأه الله تعالى :
إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله تعالى ﴿إذ قال﴾ بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي : كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال ﴿لأبيه﴾ آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله :﴿يا أبت﴾ والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً : أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع
٤٧٢
الأوّل قوله :﴿لم تعبد﴾ مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله :﴿ما لا يسمع ولا يبصر﴾ أي : ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً ﴿ولا يغني عنك شيئاً﴾ في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الآلهية وبيان ذلك من وجوه :