أحدها : أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله :﴿وإنّ الله ربي وربكم﴾ (مريم، ٣٦)
وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها : أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها ؟
وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات.
وثالثها : أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب.
ورابعها : أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس.
وخامسها : إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها ؟
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير ؟
فكأنه عليه السلام قال : ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه، النوع الثاني : قوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧١
يا أبت إني قد جاءني﴾
من المعبود الحق ﴿من العلم ما لم يأتك﴾ منه ﴿فاتّبعني﴾ أي : فتسبب من ذلك أني أقول لك وجوباً عليّ للنهي عن المنكر ونصيحة لمالك عليّ من الحق اجتهد في تبعي ﴿أهدك صراطاً﴾ أي : طريقاً ﴿سوياً﴾ أي : مستقيماً كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أنّ أمامنا مهلكاً لا ينجو منه أحد وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك لأطعتني ولو عصيتني فيه عدّك كل أحد غاوياً.
النوع الثالث : قوله :
﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾ فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله ﴿أنّ الشيطان﴾ البعيد من كل خير المحترق باللعنة ﴿كان للرحمن عصياً﴾ بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ.
فإن قيل : هذا القول يتوقف على إثبات أمور ؛ أحدها : إثبات الصانع، وثانيها : إثبات الشيطان، وثالثها : أنّ الشيطان عاص، ورابعها : أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته، وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام
٤٧٣
أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه ؟
وأجيب : بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله :﴿لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً﴾ وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال. النوع الرابع قوله :
﴿يا أبت إني أخاف﴾ لمحبتي لك وعزتي عليك ﴿أن يمسك عذاب﴾ أي : كائن ﴿من الرحمن﴾ الذي هو مولى كل من تولاه لعصيانك إياه ﴿فتكون﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن تكون ﴿للشيطان ولياً﴾ أي : ناصراً وقريناً في النار ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه إلى التوحيد وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلائل بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً بالرفق واللطف قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا أن
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧١
﴿قال أراغب أنت عن آلهتي﴾ بإضافتها إلى نفسه فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال ﴿يا إبراهيم﴾ وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً ﴿لئن لم تنته﴾ عما أنت عليه ﴿لأرجمنك﴾ أي : لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني ﴿واهجرني﴾ أي : بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ ﷺ والمؤمنين أي : تباعد عني ﴿ملياً﴾ أي : دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل : اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً، فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما أن


الصفحة التالية
Icon