﴿قال﴾ له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم ﴿سلام عليك﴾ توديع ومتاركة أي : سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله :﴿لنا أعمالنا ولكم
٤٧٤
أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين﴾
(القصص، ٥٥)
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٤
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾
(الفرقان، ٦٣)
وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى :﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ (الفرقان، ٦٣)
ثم استأنف قوله :﴿سأستغفر لك ربي﴾ أي : المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام ﴿إنه كان بي حفياً﴾ أي : مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء :﴿واغفر لأبي﴾ (الشعراء، ٨٦)
وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما : أنه قال له انقياداً لأمر أبيه
﴿وأعتزلكم﴾ أي : جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله ﴿وما تدعون﴾ أي : تعبدون ﴿من دون الله﴾ الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر ﴿وأدعو﴾ أي : أعبد ﴿ربي﴾ وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه ﴿عسى أن لا أكون بدعاء ربي﴾ المنفرد بالإحسان إليّ ﴿شقياً﴾ أي : كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي :
*وما غربة الإنسان في شقة النوى
** ولكنها والله في عدم الشكل
*وإني غريب بين بست وأهلها
** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال :
﴿فلما اعتزلهم﴾ أي : بالهجرة إلى الأرض المقدّسة ﴿وما يعبدون من دون الله﴾ لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه وعوّضه الله أولاداً كما قال تعالى ﴿وهبنا له﴾ كما هو الشأن في كل من ترك شيئاً لله ﴿إسحاق﴾ ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سنّ اليأس وأخذه هو في السنّ إلى حد لا يولد لمثله ﴿ويعقوب﴾ ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأمّا إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه وتعالى هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإحيائه تلك المشاعر العظام فأفرده بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه بقوله بعد ﴿واذكر في الكتاب إسماعيل﴾ فترك ذكره مع إسحاق الذي هو أخوه لذلك ثم صرح بما وهب لأولاده جزاءً على هجرته بقوله تعالى :﴿وكلاً﴾ أي : منهما ﴿جعلنا نبياً﴾ عالي المقدار ويخبر بالأخبار العظيمة كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٤
ووهبنا لهم﴾
كلهم ﴿من رحمتنا﴾ أي : شيئاً منها عظيماً من النسل الطاهر والذرّية الطيبة وإجابة الدعاء واللطف في القضاء والبركة في المال والأولاد وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة ﴿وجعلنا لهم لسان صدق علياً﴾ وهو الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطية واستجاب الله تعالى دعوته في قوله تعالى :﴿واجعل لي لسان صدق في الآخرين﴾ (الشعراء، ٨٤)
فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم فقال تعالى :﴿ملة أبيكم إبراهيم﴾
٤٧٥
(الحج، ٨٧)
وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره أوّلها أنه اعتزل عن الخلق على ما قال ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾ فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال :﴿ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً﴾. ثانيها : أنه تبرأ من أبيه كما قال عز وجل ﴿فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه﴾ (التوبة، ١١٤)
لا جرم سماه الله أبا المسلمين فقال : ملة أبيكم إبراهيم ثالثها : تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى :﴿وتله للجبين﴾ (الصافات، ١٠٣)
لا جرم فداه الله تعالى على ما قال ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾ (الصافات، ١٠٧)
. رابعها : أسلم نفسه فقال :﴿أسلمت لرب العالمين﴾ فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فقال :﴿يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾ (الأنبياء، ٦٩)
خامسها : أشفق على هذه الأمّة فقال :﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم﴾ (البقرة، ١٢٩)


الصفحة التالية
Icon