وإن يمسسك} أي : يصبك ﴿الله بضرَ﴾ كفقر ومرض ﴿فلا كاشف﴾ أي : لا دافع ﴿له إلا هو﴾ لأنه الذي أنزله بك ﴿وإن يردك بخير﴾ كرخاء وصحة ﴿فلا رادّ﴾ أي : دافع ﴿لفضله﴾ أي : الذي أرادك به ﴿يصيب به﴾ أي : بالخير ﴿من يشاء من عباده وهو الغفور﴾ أي : البليغ الستر للذنوب ﴿الرحيم﴾ أي : البالغ في الإكرام. وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم، فرجح سبحانه وتعالى جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه : الأوّل : أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار ؛ لأنّ الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال : إنه لا راد لفضله، وذلك يدل على أنّ الخير مطلوب بالذات وأنّ الشر مطلوب بالعرض كما قال ﷺ عن ربه تعالى أنه قال :"سبقت رحمتي غضبي". الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال في صفة الخير يصيب به من يشاء من عباده، وذلك يدل على أن جانب الخير أقوى وأغلب. الثالث : أنه تعالى قال ﴿وهو الغفور الرحيم﴾ وهذا أيضاً يدل على قوّة جانب الرحمة. وحاصل الكلام في هذه الآية : أنه سبحانه وتعالى بيّن أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه، وأنّ جميع الممكنات مسندة إليه وجميع الكائنات محتاجة (إليه)، فالأيدي مرفوعة إليه، والحاجات منتهية إليه، والعقول والهة فيه، والرحمة والجود فائض منه. ولما قرر تعالى الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوّة والمعاد، وزين أمر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مبتدئاً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية لئلا يبقى لأحدٍ عذر بقوله تعالى :
﴿قل﴾ يا محمد ﴿يا أيها الناس﴾ أي : الذين أرسلت إليهم ﴿قد جاءكم الحق من ربكم﴾ هو رسول الله ﷺ جاء بالحق من الله تعالى والقرآن فلم يبق لكم عذر ﴿فمن اهتدى﴾ أي : آمن بالنبيّ ﷺ وعمل بما في الكتاب ﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ لأنه اتبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل، فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة فثواب اهتدائه له
٤٦
﴿ومن ضلّ﴾ أي : كفر بها أو بشيء منها ﴿فإنما يضل عليها﴾ أي : على نفسه ؛ لأنّ وبال ضلاله عليها ؛ لأنّ من ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء فقد غر نفسه. ثم قال ﷺ ﴿وما أنا عليكم بوكيل﴾ أي : حفيظ، أي : موكول إليّ أمركم وإنما أنا بشير ونذير. قال ابن عباس : وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣
واتبع﴾
يا محمد ﴿ما يوحى إليك﴾ بالامتثال والتبليغ ﴿واصبر﴾ أي : على دعوتهم وتحمل أذيتهم ﴿حتى يحكم الله﴾ أي : بنصرك عليهم وإظهار دينك أو بالأمر بالقتال ﴿وهو خير الحاكمين﴾ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، فحكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون. وأنشد بعضهم في الصبر :
*سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ** وأصبر حتى يحكم الله في أمري
*سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ** صبرت على شيء أمرُ من الجمر
وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة، وقد تلقته الأنصار، ثم دخل المدينة فقال له : ما لك لم تتلقنا ؟
قال : لم يكن عندنا دواب. قال : فأين النواضح ؟
قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. وقد قال ﷺ "يا معشر الأنصار إنكم ستلقون بعدي أثرة". قال معاوية : فماذا قال ؟
قال :"فاصبروا حتى تلقوني" قال : فاصبر. قال : إذاً نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان :
*ألا أبلغ معاوية بن حرب ** أمير الظالمين ثنا كلامي
*بأنا صابرون فمنظروكم ** إلى يوم التغابن والخصام
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ "من قرأ سورة يونس أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق يونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون" حديث موضوع.
٤٧
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣


الصفحة التالية
Icon