فإن قيل : لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم خير مقاماً وأحسن ندياً، وقيل : هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء.
ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى :
﴿أفرأيت الذي﴾ أي : الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن ﴿كفر بآياتنا﴾ الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات ﴿وقال﴾ جرأة منه وجهلاً ﴿لأوتينّ﴾ أي : والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها ﴿مالاً وولداً﴾ أي : عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل : هي كالتي قبلها في المعنى وقيل : بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٧
ولقد رأيت معاشراً ** قد أثمروا مالاً وولداً
وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر
*فليت فلاناً كان في بطن أمه ** وليت فلاناً كان ولد حماره
ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى :
﴿أطلع الغيب﴾ الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار ﴿أم اتخذ﴾ أي : بغاية جهده ﴿عند الرحمن عهداً﴾ عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل
٤٨٩
عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث قال : فإني إذا مت بعثت قلت : نعم قال : إذا بعثت جئني وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك وقيل : صاغ له خباب حُلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً فأعطيك حينئذٍ ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن من حاله ضدّ ما ادعاه فقال تعالى :
﴿كلا﴾ وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي : هو مخطئ فيما يقول ويتمناه ﴿سنكتب﴾ أي : نحفظ عليه ﴿ما يقول﴾ فنجازيه به في الآخرة وقيل : نأمر الملائكة حتى يكتبوا عليه ما يقول ﴿ونمدّ له من العذاب مدّاً﴾ أي : نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره وقيل : نطيل مدّة عذابه
﴿ونرثه﴾ بموته ﴿ما يقول﴾ أي : ما عنده من المال والولد ﴿ويأتينا﴾ يوم القيامة ﴿فرداً﴾ لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمّ زائداً قال تعالى :﴿ولقد جئتمونا فرادى﴾ (الأنعام، ٩٤)
وقيل : فرداً رافضاً لهذا القول منفرداً عنه ولما تكلم سبحانه وتعالى في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الردّ على عباد الأصنام فقال :
﴿واتخذوا﴾ أي : كفار قريش ﴿من دون الله﴾ أي : الأوثان ﴿آلهة﴾ يعبدونها ﴿ليكونوا لهم عزاً﴾ أي : منفعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب تعالى بقوله تعالى :
﴿كلا﴾ ردع وإنكار لتعززهم بها ﴿سيكفرون بعبادتهم﴾ أي : تستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا كقوله تعالى :﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا﴾ (البقرة، ١٦٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٧
وفي آية أخرى :﴿ما كانوا إيانا يعبدون﴾ (القصص، ٦٣)
وقيل : أراد بذلك الملائكة لأنهم كانوا يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخصمونهم وهو المراد من قوله تعالى :﴿أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون﴾ (سبأ، ٤٠)
وقيل : إنّ الله تعالى يحي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ويجوز أن يراد الملائكة والأصنام ﴿ويكونون عليهم ضدّا﴾ أي : أعواناً وأعداءً.


الصفحة التالية
Icon