فإن قيل : لم وحده وهو خبر عن جمع ؟
أجيب : بأنه إما مصدر في الأصل والمصادر موحدة مذكرة وإما لأنه مفرد في معنى الجمع قال الزمخشري : والضدّ العون وحد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام :"وهم يد على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامّهم وتوافقهم" انتهى. والحديث رواه أبو داوود وغيره والشاهد فيه قوله يد حيث لم يقل أيد. ولما ذكر تعالى ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة ذكر بعده ما لهم مع الشياطين في الدنيا وأنهم يتولونهم وينقادون إليهم فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٧
٤٩٠
﴿ألم تر﴾ أي : تنظر ﴿أنّا أرسلنا﴾ أي : سلطنا ﴿الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً﴾ الأز والهز والاستفزاز أخوات ومعناها التهييج وشدّة الإزعاج أن تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات
﴿فلا تعجل عليهم﴾ أي : تطلب عقوبتهم بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم ﴿إنما نعدّ لهم عدّاً﴾ أي : ليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى :﴿ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ﴾ (الأحقاف، ٣٥)
وعن ابن عباس كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك.
وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، وقيل : نعدّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها، وقيل نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان. ثم بيّن تعالى ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٠
يوم﴾ أي : واذكر يوم ﴿نحشر المتقين﴾ بإيمانهم ﴿إلى الرحمن﴾ أي : إلى محل كرامته وقوله تعالى ﴿وفداً﴾ حال أي : وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم والوفد الجماعة الوافدون يقال وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة أي : قدم على سبيل التكرمة فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالصف، وقال أبو البقاء وفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهذا الذي قاله ليس بمذهب سيبويه لأنّ فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه وأجازه الأخفش وجرى عليه الجلال المحلي فقال : وفد جمع وافد بمعنى راكب انتهى.
وقال ابن عباس : وفداً ركباناً، وقال أبو هريرة على الإبل وقال عليّ رضي الله تعالى عنه والله ما يحشرون على أرجلهم ولكن فوق نوق رحالها الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت
﴿ونسوق المجرمين﴾ بكفرهم ﴿إلى جهنم﴾ وقوله تعالى :﴿ورداً﴾ حال أي : مشاة بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء وقيل : عطاش قد تقطعت أعناقهم من شدّة العطش لأنّ من يرد الماء لا يرد إلا بعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء وقوله تعالى :
﴿لا يملكون الشفاعة﴾ الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المتقين والمجرمين وقيل للمتقين وقيل : للمجرمين وقوله تعالى :﴿إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً﴾ استثناء متصل على القولين الأوّلين،
٤٩١
منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً كقوله تعالى :﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ (الأنبياء، ٢٨)
ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روى عن ابن مسعود أنه ﷺ قال لأصحابه ذات يوم :"أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا : وكيف ذلك قال : يقول كل صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهد توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة" فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولداً بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٠
وقالوا اتخذ الرحمن ولداً﴾ أي : قالت اليهود : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقالت العرب : الملائكة بنات الله.