﴿فلا يصدّنك﴾ أي : يصرفنك ﴿عنها من لا يؤمن بها﴾ فقيل : وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى عليه السلام لأنّ الكلام أجمع خطاب له، وقيل : هو محمد ﷺ واختلف أيضاً في عود هذين الضميرين على وجهين :
أحدهما : قال أبو مسلم لا يصدّنك : عنها أي : عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي : بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه.
ثانيهما : قال ابن عباس : فلا يصدنك عن الساعة أي : عن الإيمان بها من لا يؤمن
٥٠٢
بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.
تنبيه : المقصود من ذلك نهى موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان :
أحدهما : أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب.
الثاني : أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك ههنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل : لا تكن رخواً بل كن شديداً صلباً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ﴿واتبع هواه﴾ أي : ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله ﴿فتردى﴾ أي : فتهلك إن انصددت عنها وما في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٩
﴿وما تلك بيمينك﴾ مبتدأ استفهامية وتلك خبره وبيمينك حال من معنى الإشارة وقوله تعالى :﴿يا موسى﴾ تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى :﴿نودي يا موسى﴾ وبعد في مواضع كألقها يا موسى لزيادة الاستئناس والتنبيه.
فإن قيل : السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ في ذلك فوائد ؛ الأولى : توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره هل تعرف هذا ؟
وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية : أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. الثالثة : أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى عليه السلام ودهش فقيل له وما تلك بيمينك يا موسى ؟
وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة.
فإن قيل : هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد ﷺ أجيب : بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى :﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ (النجم، ١٠)
إلا أنّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد ﷺ كان سراً لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مراراً على ما قاله ﷺ "المصلي
٥٠٣
يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى :﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ (يس، ٥٨)
تنبيه : قوله تعالى : وما تلك إشارة إلى العصا وقوله تعالى بيمينك إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه الله تعالى الأولى : أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهاناً ساطعاً ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً صار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها : أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعباناً فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها : أن العصا كانت في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركته انقلبت ثعباناً فبلع سحر السحرة فأيّ عجب لو صار القلب ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى عليه السلام هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٣
ولما سأل تعالى موسى عليه السلام عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال أوّلها :