فإن قيل : كيف أطلق لفظ الجمع على الاثنين ؟
أجيب : بأنّ العصا كانت آيات انقلابها حيواناً ثم إنها في أوّل الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى : تهتز كأنها جانّ ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إنه عليه السلام كان يدخل يده في فمها فما كانت تضرّه فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإنّ بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالها بعد ذلك آية أخرى فدل ذلك على أنها كانت آيات كثيرة.
وقيل : الآيات العصا واليد وحلّ عقدة لسانه وقيل : معناه أمدّكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تنزاح به العلل من فرعون وقومه ﴿ولاتنيا﴾ أي : لا تفترا ولا تقصرا ﴿في ذكري﴾ أي : بتسبيح وغيره فإنّ من ذكر جلال الله استخف غيره فلا يخاف أحداً وتقوى روحه بذلك الذكر فلا تضعف في مقصوده، ومن ذكر الله لا بدّ وأن يكون ذاكر إحسانه، وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وقيل : لاتنيا في ذكرى عند فرعون بأن تذكرا لفرعون وقومه أنّ الله لا يرضى منهم الكفر وتذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وقيل : المراد بالذكر تبليغ الرسالة
﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى﴾ أي : بادّعاء الربوبية
تنبيه : ذكر الله تعالى المذهوب إليه هنا وهو فرعون وحذفه في قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي اختصاراً في الكلام وقال القفال فيه وجهان ؛ أحدهما : أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرّة أخرى اذهبا لتعرفا أنّ المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر والثاني : أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله تعالى : اذهبا إلى فرعون أمر بالذهاب إلى فرعون وحده واستبعد هذا بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وقد حذف من كل من الذهابين ما أثبته في الآخر وقيل : إنه حذف المذهوب إليه من الأوّل وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به وهو بآياتي من الثاني وأثبته في الأوّل.
﴿فقولا له قولاً ليناً﴾ أي : مثل ﴿هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى﴾ (النازعات : ١٨، ١٩)
فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة، فإن قيل : لم أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد ؟
أجيب : بأنّ عادة الجبار إذا أغلظ عليه في الوعظ يزداد عتوّاً وتكبراً فأمر باللين حذراً من أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليهما واحتراماً لما له من حق التربية وقيل : كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرّة وقيل : عداه شباباً لا هرم بعده وملكاً لا يزول إلا بالموت وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان وكان غائباً فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أنّ لك عقلاً ورأياً أنت رب تريد أن تكون مربوباً وأنت تعبد تريد أن تعبد فغلبه على رأيه وقوله تعالى :﴿لعله يتذكر أو يخشى﴾ متعلق باذهبا أو قولا أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوقه ويسعى بأقصى وسعه، قال الزمخشري : ولا يستقيم أن يراد ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالم بعواقب الأمور، وعن سيبويه كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب بمعنى أنه يستحيل
٥١٣
بقاء معناه في حق الله تعالى وقال الفرّاء : إن لعلّ بمعنى كي فتفيد العلية كما تقول اعمل لعلك تأخذ أجرتك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٠
فائدة : قرأ رجل عند يحيى بن معاذ ﴿فقولا له قولاً لينا﴾ فبكى يحيى وقال إلهي هذا برك بمن يقول أنا الإله فكيف برك بمن يقول أنت الإله فإن قيل : ما الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن ؟
أجيب : بأنّ ذلك الإلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدّم الأوّل أي : إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك حين ألجمه الغرق قال :﴿آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين﴾ (يونس، ٩٠)
ثم إنّ موسى وهارون.