﴿قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط﴾ أي : يعجل ﴿علينا﴾ بالعقوبة ﴿أو أن يطغى﴾ أي : يتجاوز الحد في الإساءة علينا، فإن قيل : لما تكرّر الأمر من الله تعالى بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على معصية ؟
أجيب : بأنّ الأمر ليس على الفور فسقط السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أنّ الأمر لا يقتضي الفور، فإن قيل : قوله تعالى : قالا ربنا يدل على أنّ المتكلم موسى وهارون ولم يكن هارون هناك حاضراً ؟
أجيب : بأنّ الكلام كان مع موسى إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير في تلك الحالة وإن كان موسى وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى :﴿وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها﴾ (البقرة، ٧٢)
وقوله :﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل﴾ (المنافقون، ٨)
روي أنّ القائل عبد الله بن أبيّ وحده، فإن قيل : إنّ موسى عليه السلام قال :﴿رب اشرح لي صدري﴾ (طه، ٢٥)
فأجابه الله تعالى بقوله :﴿قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ (طه، ٣٦)
وهذا يدل على أنه تعالى قد شرح صدره ويسر له ذلك الأمر.
فكيف قال بعده إنا نخاف فإنّ حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر ؟
أجيب : بأنّ شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير الخوف
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٠
﴿قال﴾ الله تعالى لهما ﴿لا تخافا إنني معكما﴾ حافظكما وناصركما ﴿أسمع وأرى﴾ أي : ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصري، وقال ابن عباس : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع فلست بغافل عنكما فلا تهتما، وقال القفال : قوله تعالى :﴿أسمع وأرى﴾ يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله تعالى ﴿يفرط علينا أو أن يطغى﴾ ؛ يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا، قال تعالى : إنني معكما أسمع كلامكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه ثم إنه سبحانه وتعالى أعاد ذلك التكليف فقال :
﴿فأتياه﴾ لأنه سبحانه وتعالى قال في المرّة الأولى :﴿اذهبا إلى فرعون﴾ (طه، ٤٣)
وفي الثانية قال :﴿اذهب أنت وأخوك﴾ (طه، ٤٢)
وفي الثالثة قال :﴿اذهب إلى فرعون﴾ (طه، ٢٤)
وفي الرابعة قال ههنا : فأتياه، فإن قيل : إنه تعالى أمرهما في الثانية بأن يقولا له قولاً ليناً، وههنا أمرهما بقوله تعالى :﴿فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني
٥١٤
إسرائيل﴾ أي : إلى الشام ﴿ولا تعذبهم﴾ أي : خل عنهم من استعمالك إياهم في أشغالك الشاقة كالحفر والبناء وحمل الثقيل وقطع الصخور وكان فرعون يستعملهم في ذلك مع قتل الأولاد وفي هذا تغليظ من وجوه ؛ الأول : قوله : إنا رسولا ربك، وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع. الثاني : قولهما : فأرسل معنا بني إسرائيل فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال أيضاً. الثالث : قولهما : ولا تعذبهم. الرابع : قولهما ﴿قد جئناك بآية من ربك﴾ فما الفائدة في التليين أوّلاً والتغليظ ثانياً ؟
أجيب : بأنّ الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بدّ له من التغليظ حيث لم ينفع التليين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
فإن قيل : أليس الأولى أن يقول إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بالدعاء للرسالة أولى من تأخيره عنه ؟
أجيب : بأنّ هذا أولى لأنهما ذكرا مجموع الدعاوي ثم استدلا على ذلك المجموع بالمعجز وقولهما : قد جئناك بآية من ربك قال الزمخشري : هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي أنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتهما التي هي مجيء الآية.
فإن قيل : إنّ الله تعالى قد أعطاهما آيتين هما العصا واليد ثم قال تعالى :﴿اذهب أنت وأخوك بآياتي﴾، وذلك يدل على ثلاث آيات وقالا هنا قد جئناك بآية من ربك وذلك يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع ؟
أجاب القفال : بأنّ معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنهما قالا قد جئناك ببينات من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وتقدّم الجواب عن التثنية والجمع وأنّ في العصا واليد آيات.
وقوله تعالى :﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى كأنه تعالى قال : فقولا إنا رسولا ربك وقولا له والسلام على من اتبع الهدى ويحتمل أن يكون كلام الله قد تمّ عند قوله قد جئناك بآية من ربك، وقوله تعالى بعد ذلك والسلام على من اتبع الهدى وعد من قبلهما لمن آمن وصدّق بالسلامة له من عقوبات الله في الدنيا والآخرة أو أنّ سلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، وقال بعضهم : إن على بمعنى اللام أي : والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى :﴿من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها﴾ (فصلت، ٤٦)