فأوجس} أي : أحس ﴿في نفسه خيفة موسى﴾ عليه الصلاة والسلام فإن قيل : كيف استشعر الخوف، وقد عرض عليه المعجزات الباهرات كالعصا واليد، ثم إن الله تعالى قال له بعد ذلك : إنني معكما أسمع وأرى فكيف وقع الخوف في قلبه ؟
أجيب بأوجه أحدها : أنه خاف من جهة أن سحرهم من جنس معجزته أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به، الثاني : أنه خوف طبع البشرية مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك، الثالث : لعله كان مأموراً أن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخَّر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الوحي في ذلك الجمع، فيبقى الخجل ؛ ثم إنه أزال ذلك الخوف بقوله تعالى :
﴿قلنا لا تخف﴾ من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله تعالى، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من
٥٢١
سحرهم لعظمه ﴿إنك أنت﴾ خاصة ﴿الأعلى﴾ أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها ﴿وألقِ ما في يمينك﴾ أبهمه، ولم يقل : عصاك تحقيراً لها ؛ أي : لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألقِ العويد الذي في يدك، أو تعظيماً لها أي : لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي : العصا، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة :﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ (ظه، ١٧)، ثم أريناك منها ما أريناك ﴿تلقف﴾ أي : تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك ﴿ما صنعوا﴾ أي : فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم، ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعاً، فصاح بموسى، فأخذها، فإذا هي عصا كما كانت، ونظرت السحرة، فإذا هي لم تدع من حبالهم، وعصيهم شيئاً إلا أكلته، وعرفوا أنه ليس بسحر، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف، والباقون بسكونها، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته ﴿إنما﴾ أي : الذي ﴿صنعوا﴾ أي : زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره ﴿كيد ساحر﴾ أي : كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم : علم فقه، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢١
فإن قيل : لم وحد الساحر ولم يجمع ؟
أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ولا يفلح الساحر﴾ أي هذا الجنس ﴿حيث أتى﴾ أي : كيفما سار، وقال ابن عباس : لا يسعد حيث كان، وقيل : معناه حيث احتال، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له.
فإن قيل : لم نكر أولاً، ثم عرف ثانياً أجيب بأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته، وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام، وحذف ذكر الإلقاء، وما سببه من التلقف ؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية.
﴿فألقي السحرة﴾ أي : فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر ﴿سجداً﴾ على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغباناً لفرعون بسجودهم، وتعظيماً لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال : قال رئيسهم : كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا
٥٢٢
بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود ؛ قال الأصبهاني : سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلاً قال هذا فعلهم، فماذا قالوا ؟
فقيل :﴿قالوا : آمنا برب هارون وموسى﴾ ولم يقولوا : آمنا برب العالمين ؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله :﴿أنا ربكم الأعلى﴾ (النازعات، ٢٤)