والإلهية في قوله :﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ (القصص، ٣٨)، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل : قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فكأنه قيل : ما قال لهم فرعون حينئذٍ ؟
فقيل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢١
قال﴾ لهم :﴿آمنتم﴾ أي : بالله ﴿له﴾ أي : مصدِّقين أو متبعين لموسى ﴿قبل أن آذن لكم﴾ في ذلك، قال ذلك إيهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن، ثم استأنف قوله معلماً مخيلاً لاتباعه صداً لهم عن الاقتداء بالسحرة ﴿إنه﴾ أي : موسى ﴿لكبيركم﴾ أي : معلمكم ﴿الذي علمكم السحر﴾ أي : فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة، فقال مقسماً ﴿فلأقطعن﴾ أي : بسبب ما فعلتم ﴿أيديكم﴾ على سبيل التوزيع ﴿وأرجلكم﴾ أي : من كل رجل يداً ورجلاً، وقوله :﴿من خلاف﴾ حال يعني مختلفة، أي : الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى ﴿ولأصلبنكم﴾ وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه، فقال :﴿في جذوع النخل﴾ تشنيعاً لقتلكم وردعاً لأمثالكم ﴿ولتعلمن أينا﴾ يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله : آمنتم له، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله ؛ كقوله : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، وفيه تبجح باقتداره وقهره، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به ؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
وقيل : يريد رب موسى الذي آمنوا به ﴿أشد عذاباً وأبقى﴾ أي : أدوم على مخالفته فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسي في قوله : أينا أشد عذاباً وأبقى ؟
أجيب : بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، قال الرازي : ومن استقرىء أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء، ثم كأنه قيل فما قالوا له ؟
فقيل :
٥٢٣
﴿قالوا﴾ له :﴿لن نؤثرك﴾ أي : نختارك ﴿على ما جاءنا﴾ على لسان موسى ﴿من البينات﴾ التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا :﴿والذي﴾ أي : ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي : ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢١
تنبيه : قد علم مما تقرر أن والذي معطوف على ما وإنما أخروا ذكر الباري تعالى ؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل : الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له :﴿فاقض﴾ أي : فاصنع في حكمك الذي تمضيه ﴿ما أنت قاض﴾ أي : فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم :﴿إنما تقضي﴾ أي : تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه ﴿هذه الحياة الدنيا﴾ النصب على الاتساع أي : إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم، ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم :