﴿إنا آمنا بربنا﴾ أي : المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره ﴿ليغفر لنا﴾ من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك ﴿خطايانا﴾ التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا :﴿وما أكرهتنا عليه﴾ وبينوا ذلك بقولهم :﴿من السحر﴾ لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه ؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى.
فإن قيل : كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة ؟
أجيب : بأنه قد روي أن رؤوساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون : إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة.
وقيل : إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله ﴿والله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿خير﴾ جزاء منك فيما وعدتنا به ﴿وأبقى﴾ ثواباً وعقاباً قال أبو حيان : والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى :﴿ومن اتبعكما الغالبون﴾ (القصص، ٣٥)، وقال الرازي : ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار، وقال البقاعي : سيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم، ثم عللوا هذا الحكم بقولهم :
﴿إنه﴾ أي : الأمر والشأن ﴿من يأت ربه﴾ أي : الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه ﴿مجرماً﴾ بأن يموت على كفره ﴿فإن له جهنم﴾ دار الإهانة ﴿لا يموت فيها﴾ فيستريح من عذابها بخلاف عذابك، فإن آخره الموت وإن طال ﴿ولا
٥٢٤
يحيى﴾
فيها حياة مهنأة، وبها يندفع ما قيل : إن الجسم الحيِّ لا بد أن يبقى إمَّا حياً أو ميِّتاً، فخلوه عن الوصفين محال، وقال بعضهم : إن لنا حالة ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أن يهدأ، فلا هو حي لأنه قد ذبح ذبحاً لا تبقى الحياة معه، ولا هو ميت ؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، فهي حالة ثالثة
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢١
ومن يأته﴾
أي : ربه الذي قد أوجده ورباه ﴿مؤمناً﴾ أي : مصدقاً به ﴿قد﴾ ضم إلى تصديق الإيمان أنه ﴿عمل﴾ أي : في الدنيا الصالحات أي : التي أمر بها، فكان صادق الإيمان مستلزماً لصالح الأعمال ﴿فأولئك﴾ أي : العالوا الرتبة ﴿لهم الدرجات العلى﴾ جمع علياء مؤنث أعلى التي لا نسبة لدرجاتك التي أوعدتناها إليها، ثم بينوها بقولهم :
﴿جنات عدن﴾ أي : أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي : من تحت غرفها وأسرتها وأرضها، فلا يراد موضع منها ؛ لأن يجري فيه نهر الأجرى، وقولهم :﴿خالدين فيها﴾ حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار ﴿وذلك جزاء﴾ كل ﴿من تزكى﴾ أي : تطهر من أدناس الكفر.
تنبيه : هذه الآيات الثلاث وهي من قوله أنه من يأت ربه مجرماً إلى هنا يحتمل أن تكون من كلام السحرة كما تقرر، وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى، وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢١
عطف على قوله :﴿ولقد أريناه آياتنا﴾ (طه، ٥٦)
وفيه دليل على أن موسى عليه السلام كثر مستجيبوه، فأراد الله تعالى تمييزهم من طبقة فرعون وخلاصهم، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً، والسري اسم لسير الليل، والإسراء مثله، والحكمة في السري بهم لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم، أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه وتتبعه، أو ليكون إذا تقارب العسكر أن لا يرى عسكر موسى عليه الصلاة والسلام عسكر فرعون لعنه الله فلا يهابونهم.
وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون وهمزة وصل بعدها من سرى، والباقون بسكون النون، وهمزة قطع بعدها من أسرى لغتان أي أسر ببني إسرائيل من أرض مصر التي لينت قلب فرعون لهم
٥٢٥
حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم ﴿فاضرب﴾ أي : اجعل ﴿لهم﴾ بالضرب بعصاك ﴿طريقاً في البحر﴾ والمراد بالطريق الجنس، فإنه كان لكل سبط طريق، وقوله ﴿يبساً﴾ صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه ؛ لأنه لم يكن يبساً إلا بعد أن مرت عليه الصبا، فجففته كما روي، وقيل في الأصل مصدر وصف به مبالغة، وقيل : جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة، فلما امتثل ما أمر به، وأيبس الله تعالى له الأرض، وأراد المرور بها قال الله تعالى له :﴿لا تخاف دركاً﴾ أي : أن يدركك فرعون ﴿ولا تخشى﴾ غرقاً وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الخاء على أن يكون نهياً مستأنفاً، والباقون برفع الفاء، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف، فلا محل له من الإعراب، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب، أي : اضرب غير خائف
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٥


الصفحة التالية
Icon