فاتبعهم فرعون بجنوده} أي : وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم، وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه، والمتبوع بنو إسرائيل، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل، فأخبر فرعون بذلك، فقص أثرهم، والمعنى : فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول الثاني، وقيل : إن الباء زائدة ﴿فغشيهم﴾ أي : فرعون وقومه ﴿من اليم﴾ أي : البحر ﴿ما غشيهم﴾ أي : أمر لا تحتمل العقول وصفه، فأهلكهم، وقطع دابرهم، ولم يبق منهم أحداً وما شاك أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة
﴿وأضل فرعون قومه﴾ أي : بدعائهم إلى عبادته ﴿وما هدى﴾ أي : ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله :﴿وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ (غافر، ٢٩)
تنبيه : لا بأس بذكر شيء من هذه القصة، فنقول : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلاً، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم، فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي، أي : انظري لك شيئاً اطلبيه، فقالت : أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هنا أمرت، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فقال لهم موسى : ادخلوا فيه، فقالوا : كيف وهي رطبة ؟
فدعا ربه فهبت عليها الصبا، فجفت، فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى يرى بعضم بعضاً، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه : إن موسى قد سحر البحر كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس : الحقوا حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا : يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب، فهذا معنى قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما
٥٢٦
غشيهم، ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم، فناداهم بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٥
يا بني إسرائيل﴾
والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي ﷺ وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى عليه السلام، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله :﴿قد أنجيناكم من عدوكم﴾، فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى :﴿وواعدناكم جانب الطور الأيمن﴾ أي : الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر، وناحية مكة واليمن، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتاباً فيه بيان دينهم، وشرح شريعتهم.
ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله :﴿ونزلنا عليكم﴾ بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم ﴿المنِّ﴾ أي : الترنجبين ﴿والسلوى﴾ أي : الطير السماني بتخفيف الميم والقصر، وقوله تعالى :
﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ أمر إباحة أن فسر الطيب باللذيذ ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة، وإن فسر بالحلال ؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم تمسه يد الآدميين، فهو أمر إيجاب، وقرأ حمزة والكسائي قد أنجيناكم ووعدناكم ما رزقناكم بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا، وبعد الدال من وعدنا، وبعد القاف من رزقنا، ولا ألف في الثلاثة، والباقون بالنون، وألف بعدها في الثلاثة، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا، وأثبتها الباقون، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى :﴿ولا تطغوا فيه﴾ أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين، وقرأ الكسائي ﴿فيحل﴾ بضم الحاء، أي : ينزل، والباقون بكسرها، أي : يجب ﴿عليكم غضبي﴾ أي : عقوبتي ﴿ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى﴾ أي : هلك، وقيل : شقي، وقيل : وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى، وكسرها الباقون، ولما كان الإنسان محل الزلل، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه :


الصفحة التالية
Icon