﴿وإني لغفار﴾ أي : ستار بإسبال ذيل العفو ﴿لمن تاب﴾ أي : رجع عن ذنوبه من الشرك، وما يقاربه ﴿وآمن﴾ بكل ما يجب الإيمان به ﴿وعمل صالحاً﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿ثم اهتدى﴾ باستمراره على ذلك إلى موته.
فائدة : اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً، وبأن له غفراناً ومغفرة، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أمَّا وصف كونه غافراً، فقوله تعالى ﴿غافر الذنب﴾ (غافر، ٣)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٥
وأما كونه غفوراً، فقوله تعالى :﴿وربك الغفور﴾ (الكهف، ٥٨)، وأما كونه غفاراً، فقوله تعالى :﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن﴾، وأما الغفران، فقوله تعالى :﴿غفرانك ربنا﴾ (البقرة، ٢٨٥)، وأما المغفرة، فقوله تعالى :﴿وإن ربك لذو مغفرة للناس﴾ (الرعد، ٦)، وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود عليه السلام :﴿فغفرنا له﴾ (ص، ٢٥)، وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى :﴿يغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء، ٤٨)، وقوله تعالى في حق نبينا ﷺ ﴿ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر﴾ (الفتح، ٢)، وأما لفظ الاستغفار، فقوله تعالى :﴿استغفروا ربكم﴾ (هود، ٣)، ﴿ويستغفرون لمن في الأرض﴾ (الشورى، ٥)
٥٢٧
﴿ويستغفرون للذين آمنوا﴾ (غافر، ٧)
وههنا نكتة لطيفة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة ؛ الظالم والظلوم والظلام إذا كثر منه الظلم، ولله تعالى في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم، فكأنه تعالى قال : إن كنت ظالماً فأنا غافر، وإن كنت ظلوماً فأنا غفور، وإن كنت ظلاماً فأنا غفار، فيجب على كل من ارتكب معصية كبيرة أو صغيرة أن يتوب منها لهذه الآية، ودلت على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان ؛ لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف غاير المعطوف عليه. ولما أمر تعالى موسى عليه السلام بحضور الميقات مع قوم مخصوصين قال المفسرون : هم السبعون الذين اختارهم الله تعالى من جملة بني إسرائيل ليذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم موسى، ثم عجل موسى عليه السلام من بينهم شوقاً إلى ربه وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٥
أي : لمجيء ميعاد أخذ التوراة ﴿يا موسى﴾
﴿قال﴾ مجيباً لربه تعالى :﴿هم أولاء﴾ أي : بالقرب مني يأتون ﴿على أثري﴾ أي : ماشين على آثار مشي قبل أن ينطمس، وما تقدمتهم إلا بخطاً يسيرة لا يعتد بها عادة، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم على بعض ﴿وعجلت إليك رب لترضى﴾ أي : لتزداد عني رضاً، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك.
تنبيه : في الآية سؤالات :
الأول : قوله تعالى : وما أعجلك استفهام، وهو على الله تعالى وأجيب عنه : بأنه كان في صورة الاستفهام، ولا مانع منه.
الثاني : أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يكون ممنوعاً من ذلك التقدم، أو لم يكن، فإن كان الأول كان التقدم معصية، وإن لم يكن فلا إنكار، وأجيب عنه : بأنه عليه السلام لعله ما وجد نصاً في ذلك، فاجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فاستوجب العتاب.
الثالث : قوله : وعجلت، والعجلة مذمومة، أجيب عنه بأنها ممدوحة في الدين قال تعالى :﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ (آل عمران، ١٣٣)
الرابع : قوله لترضى يدل على أنه إنما فعل ذلك ليحصل الرضا، وإذا لم يكن راضياً عنه، وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، أجيب عنه : بأن المراد تحصيل دوام الرضا، أو زيادته كما مرَّ.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٨
الخامس : قوله إليك يقتضي كون الله تعالى في جهة لأن إلى لانتهاء الغاية، وأجيب عنه : بأنا اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل، فالمراد مكان وعدك.
السادس : قوله تعالى : ما أعجلك عن قومك سؤال عن سبب العجلة، فكان جوابه اللائق به أن يقول : طلب زيادة رضاك، أو التشوق إلى كلامك، وأما قوله : هم أولاء على أثري، فغير منطبق عليه كما ترى ؛ أجيب عنه بأن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين ؛ أحدهما : إنكار نفس العجلة، والثاني : السؤال عن سببب التقدم، فأجاب عن السؤال عن العجلة ؛ لأنها أهم، فقال : وعجلت إليك رب لترضى
﴿قال﴾ تعالى :﴿فإنا﴾ أي : تسبب عن عجلتك عنهم أنا ﴿قد فتنا﴾ أي : ابتلينا ﴿قومك من بعدك﴾ أي : بعد فراقك لهم بعبادة العجل، وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف،
٥٢٨
وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً ﴿وأضلهم السامري﴾ باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، فأطاعه بعضهم، وامتنع بعضهم، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامرة، وقيل : كان علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر، وقيل : كان من قوم يعبدون البقر جبران لبني إسرائيل، ولم يكن منهم، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقاً