﴿فرجع موسى﴾ لما أخبره ربه بذلك ﴿إلى قومه﴾ بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وأخذ التوراة ﴿غضبان﴾ عليهم ﴿أسفاً﴾ أي : حزينا بما فعلوا ﴿قال﴾ أي : لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم :﴿يا قوم﴾ وأنكر عليهم بقوله :﴿ألم يعدكم ربكم﴾ أي : الذي أحسن إليكم ﴿وعداً حسناً﴾ أي : بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري :
*لا أنسينك طال الزمان بنا
** وكم حبيب تمادى عهده فنسى
قال لهم :﴿أفطال عليكم العهد﴾ أي : زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر ﴿أم أردتم﴾ أي : بالنقض مع قرب العهد، وذكر الميثاق ﴿أن يحل﴾
أي يجب ﴿عليكم﴾ بسبب عبادة العجل ﴿غضب من ربكم﴾ المحسن إليكم، أي : وكلا الامرين لم يكن أما الأول فواضح، وأما الثاني : فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول : فعلتم ما لا يفعله عاقل ﴿فأخلفتم﴾ أي : فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم ﴿موعدي﴾ أي : وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام على ما أمركم به، ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره، فقال :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٨
قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا﴾ أي : بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه، واختلف في هذا المجيب على وجهين.
الأول : هم الذين لم يعبدوا العجل، فكأنهم قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا أي : بأمر كنا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى :﴿وإذ فرقنا بكم البحر﴾ (البقرة، ٥٠)، ﴿وإذ قتلتم نفساً﴾ (البقرة، ٧٢)، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه، ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع النفرة، وزيادة الفتنة.
الثاني : أن هذا قول عبدة العجل، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل : كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة ؟
أجيب : بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمها، والباقون بكسرها، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل، فقالوا :﴿ولكنا حملنا﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة، وأبو عمرو، وشعبة
٥٢٩
وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة ﴿أوزاراً﴾ أي : أثقالاً ﴿من زينة القوم﴾ أي : حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس، وقيل : استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به، وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذوه، قال البيضاوي : ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي ﴿فقذفناها﴾ أي : في النار ﴿فكذلك ألقى السامري﴾ أي : ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه، وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض، فقال له ربه : أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشراً، وقيل : إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين بأيامها، وقالوا : قد كملت العدة، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار، فاحفروا حفرة وألقوها فيها، ثم أوقدوا عليها ناراً، فلا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري قد رأى أثراً، فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له : يا سامري ألا تلقي ما في يدك، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال : أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً، فهذا معنى قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٨