فأخرج لهم عجلاً جسداً} من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح ﴿له خوار﴾ أي : صوت يسمع ؛ قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل : إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه ﴿فقالوا﴾ : أي السامري : ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل ﴿هذا إلهكم وإله موسى فنسي﴾ أي : فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي : ترك ما كان عليه من الإيمان
﴿أفلا يرون﴾ أي : قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية ﴿أن﴾ أي : أنه ﴿لا يرجع إليهم قولاً﴾ والإله لا يكون أبكم ﴿ولا يملك لهم ضراً﴾ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفاً من ضرره ﴿ولا نفعاً﴾ فيقولون ذلك رجاءً له
﴿ولقد قال لهم هارون من قبل﴾ أي : قبل رجوع موسى مستعطفاً لهم ﴿يا قوم إنما فتنتم﴾ أي : وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه ﴿به﴾ أي : بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال :﴿وإن ربكم﴾ أي : الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان ﴿الرحمن﴾ وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته ﴿فاتبعوني﴾ بغاية جهدكم في الرجوع إليه ﴿وأطيعوا أمري﴾ أي : في الثبات على الدين
﴿قالوا لن نبرح عليه﴾ أي : العجل ﴿عاكفين﴾ أي : مقيمين ﴿حتى يرجع إلينا موسى﴾ فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له :﴿وأصلح ولا تتبع
٥٣٠
سبيل المفسدين﴾
(الأعراف، ١٤٢)، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٨
تنبيه : إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق ؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله :﴿اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ (الأعراف، ١٤٢)، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ؟
قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله ﷺ "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم" وعن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد" وعن عبد الله بن أبي أوفى قال :"خرجت أريد النبي ﷺ فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر : ضم الصبي إليك، فإنه ضال، فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها، فقال النبي ﷺ أدرك المرأة، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي ﷺ فاستحيت، فقال النبي ﷺ عند ذلك : أترون هذه رحيمة بولدها ؟
قالوا : يا رسول الله كفى بهذه رحمة، فقال : والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها" ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله : إنما فتنتم به، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله : وإن ربكم الرحمن، ثم دعاهم ثالثاً إلى النبوة بقوله : فاتبعوني، ثم دعاهم رابعاً بقوله : وأطيعوا أمري، وهذا هو الترتيب الجيد ؛ لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً، ولما ذكر الله تعالى ما قال هارون تشوقت النفس إلى علم ما قال موسى فقيل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢٨
٥٣١
﴿قال يا هارون﴾ أنت نبي الله، وأخي ووزيري وخليفتي، فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه ﴿ما منعك إذ﴾ أي : حين ﴿رأيتهم ضلوا﴾ عن طريق الهدى واتبعوا سبيل الردى
﴿أن لا تتبعني﴾ في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً.


الصفحة التالية
Icon