تنبيه : لا مزيدة للتأكيد ؛ لأن النافي إذا زيد في كلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضمون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد، وأثبت الياء بعد النون ابن كثير وقفاً ووصلاً، وأثبتها نافع، وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ﴿أفعصيت﴾ أي : فتكبرت عن اتباعي، فتسبب عن ذلك أنك عصيت ﴿أمري﴾ وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل : ما قال له ؟
فقال :
﴿قال﴾ مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة ﴿يا ابن أمّ﴾ فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه ؛ لأنها يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب، وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو وحفص بفتح الميم، وكسرها ابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي ﴿لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ أي : بشعرهما. ثم علل ذلك بقوله :﴿إني خشيت أن تقول﴾ إذا شددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال ﴿فرقت بين بني إسرائيل﴾ يفعلك هذا الذي لم يجسد شيئاً لقلة من كان معك وضعفك عن ردهم ﴿ولم ترقب قولي﴾ ﴿اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ (الأعراف، ١٤٢)، ولم تقل : وارددهم، ولو أدى الأمر إلى السيف، ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه، وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣١
قال﴾ أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه ﴿فما خطبك﴾ ؟
أي : أمرك هذا العجب العظيم الذي حملك على ما صنعت، وأخبرني ربي أنك أضللتهم به ﴿يا سامري﴾
﴿قال﴾ السامري : مجيباً له ﴿بصرت﴾ من البصر والبصيرة ﴿بما لم يبصروا به﴾ أي : رأيت ما لم ير بنو إسرائيل، وعرفت ما لم يعرفوا، وقال ابن عباس : علمت ما لم يعلموا، ومنه قولهم : رجل بصير، أي : عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال :﴿فقبضت﴾ أي : فكان ذلك سبباً ؛ لأن قبضت ﴿قبضة﴾ أي : مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهاً للمفعول بالمصدر ﴿من أثر﴾ فرس ذلك ﴿الرسول﴾ أي : المعهود
٥٣٢
﴿فنبذتها﴾ أي : في الحلي الملقى في النار، أو في العجل ﴿وكذلك﴾ أي : وكما سولت لي نفسي أخذ أثره ﴿سوَّلت﴾ أي : حسنت وزينت ﴿لي نفسي﴾ نبذها في الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
تنبيه : كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي : إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه ؛ قال ابن جريح : فعلى هذا قوله : بصرت بما لم يبصروا به يعني : رأيت ما لم يروه.
ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى : علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء ؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل : إن فلاناً يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال : بصرت بما لم يبصروا به ؛ أي : عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ؛ أي : شيئاً من دينك، فقذفته ؛ أي : طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣١
فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله : يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي : وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :