﴿وكذلك﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿وكذلك نقص﴾، أي : ومثل إنزال ما ذكر ﴿أنزلناه﴾ أي : القرآن ﴿قرآناً﴾ جامعاً لجميع المعاني المقصودة، ثم وصفه تعالى بأمرين ؛ أحدهما : قوله تعالى ﴿عربياً﴾ أي : بلسان العرب ليفهموه، ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر، الثاني : قوله تعالى :﴿وصرّفنا فيه من الوعيد﴾ أي : كرّرناه، وفصلناه، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم ؛ لأن الوعد بهما يتعلق بتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام، فلذلك قال تعالى :﴿لعلهم يتقون﴾ أي : يجتنبون الشرك والمحارم، وترك الواجبات، فتصير التقوى لهم ملكة ﴿أو يحدث لهم ذكراً﴾ أي : عظة واعتباراً حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والأحداث إلى القرآن.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٥
فتعالى الله﴾ في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته وصفاته ذاتهم وصفاتهم ﴿الملك﴾ الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره ﴿الحق﴾ أي : الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما، ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة، ولما شرح الله تعالى كيفية نفع القرآن للمكلفين، وبيّن أنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن كل ما لا ينبغي موصوف بالإحسان والرحمة، ومن كان كذلك صان رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، فلذلك قال تعالى :﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ أي : بقراءته ﴿من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ من الملك النازل به إليك من حضرتنا كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه، ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه، فإنا نجمعه في قلبك، ولا نكلفك المساوقة بتلاوته ﴿وقل رب﴾ أيها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ ﴿زدني علماً﴾ أي : سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة ؛ روى الترمذي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله ﷺ يقول :"اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار" وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم
٥٣٧
زدني علماً ويقيناً، ولما قال تعالى :﴿كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق﴾ (طه، ٩٩)
ذكره هذه القصة إنجازاً للوعد، فقال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٥
﴿ولقد عهدنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿إلى آدم﴾ أبي البشر أي : وصيناه أن لا يأكل من الشجرة، وإنما عطفها على قوله تعالى :﴿وصرفنا فيه من الوعيد﴾ (طه، ١١٣)
للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ بالنسيان ﴿من قبل﴾ أي : في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدّم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم ﴿فنسي﴾ عهدنا، وأكل منها ﴿ولم نجد له عزماً﴾ أي : تصميم رأي وثبات على الأمر ؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان، ولم يستطع تغريره ؛ قال البيضاوي : ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق أريها وشريها انتهى، والأري العسل، والشري : الحنظل ؛ قال البغوي : قال أبو أمامة الباهلي : لو وزن حلم آدم بحلم ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى :﴿ولم نجد له عزماً﴾، وقال البيضاوي : وعن النبي ﷺ "لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه"، وقد قال تعالى : ولم نجد له عزماً، قال ابن الأثير : والحلم بالكسرة الأناة والتثبت في الأمور.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨
فإن قيل : ما المراد بالنسيان أجيب بأنه يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وإنه لم يعنِ بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بقصد القلب عليها، وضبط النفس حتى تولد من
٥٣٨
ذلك النسيان، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان يؤاخذ به، وإنما رفع عنا، وكان الحسن يقول : ما عصى أحد قط إلا بنسيان، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها، وقيل : نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه.
تنبيه : هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في الحجر، ثم في الكهف، ثم ههنا، وقوله تعالى :﴿وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس﴾ تقدَّم الكلام على ذلك مفصلاً في سورة البقرة، وقوله تعالى :﴿أبى﴾ جملة مستأنفة ؛ لأنها جواب سؤال مقدر ؛ أي : ما منعه من السجود ؟
فأجيب بأنه أبى، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى :﴿أبى أن يكون من الساجدين﴾ (الحجر، ٣١)، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة، ويجوز أن لا يراد أصلاً، وأنَّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو