﴿فقلنا﴾ بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة ﴿يا آدم إنَّ هذا﴾ الشيطان الذي تكبر عليك ﴿عدوّ لك ولزوجك﴾ حوَّاء بالمدّ لأنها منك، وسبب تلك العداوة من وجوه ؛ الأول : أن إبليس كان حسوداً، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده، فصار عدواً له، الثاني : أن آدم عليه السلام كان شاباً عالماً لقوله تعالى :﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (البقرة، ٣٠)، وإبليس كان شيخاً جاهلاً ؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم، الثالث : أن إبليس مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فثبتت تلك العداوة فإن قيل : لمَ قال تعالى :﴿فلا يخرجنكما من الجنة﴾ مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى ؟
أجيب بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل : لمَ قال تعالى :﴿فتشقى﴾ أي : فتتعب وتنصب في الدنيا، ولم يقل : فتشقيا ؟
أجيب بوجهين ؛ أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة، وعن سفيان بن عيينة قال : لم يقل فتشقيا ؛ لأنها داخلة معه، فوقع المعنى عليهما جميعاً وعلى أولادهما جميعاً كقوله تعالى :﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء﴾ (الطلاق، ١)، و﴿يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل الله لك قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم﴾ (التحريم، ١)، فدخلوا في المعنى معه، وإنما كلم النبي وحده، الثاني : أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك على الرجل دون المرأة ؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه، وعن الحسن قال : عنى به شقاء الدنيا، فلا تلقى ابن آدم إلا شقياً ناصباً أي : ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك، ولما كان الشبع والريّ والكسوة والمكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨
إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى﴾
﴿وإنك لا تظمأ﴾ أي : تعطش ﴿فيها ولا تضحى﴾ أي : لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى : فتشقى
٥٣٩
﴿فوسوس﴾ أي : فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس ﴿إليه الشيطان﴾ المحترق المطرود وهو إبليس أي : أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه لأجله، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى :﴿فوسوس لهما﴾ (الأعراف، ٢٠)، وتارة بإلى، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى :﴿قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد﴾ أي : على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ﴿وملك لا يبلى﴾ أي : لا يبيد ولا يفنى، قال الرازي : واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى :﴿فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى﴾، ورغبة إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله تعالى : هل أدلك على شجرة الخلد وفي انتظام المعيشة بقوله، وملك لا يبلى، فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع له منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدَّره انتهى.