ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال :"احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء، وقرّبك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني ؛ قال موسى : بأربعين عاماً قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال : نعم، قال : أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؛ قال رسول الله ﷺ فحج آدم موسى"، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله ﷺ "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء، وقال : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيراً إلى الشجرة التي نهي عنها ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨
فأكلا﴾ أي : فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل ﴿منها﴾ هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل ﴿فبدت لها سوآتهما﴾ قال ابن عباس عرياً من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما، وإنما جمع سوآتهما كما قال :﴿صغت قلوبكما﴾(التحريم، ٤)
٥٤٠
أي : فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره، وسمى كل منهما سوأة ؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه ﴿وطفقا يخصفان﴾ أي : أخذا يلزقان ﴿عليهما من ورق الجنة﴾ ليستترا به، قال ابن عادل : وهو ورق التين ﴿وعصى آدم﴾ بالأكل من الشجرة، وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء، ودوام المراقبة ﴿ربه﴾ المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده، وإسجاد ملائكته له، ومعاداة من عاداه ﴿فغوى﴾ أي : فعل ما لم يكن له فعله، وقيل : أخطأ طريق الحق، وقيل : حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه، فخاب، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب ؛ قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عصى آدم، ولا يجوز أن يقال : آدم عاص ؛ لأنه إنما يقال : عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه، فيقال : خاط ثوبه، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده.
تنبيه : تمسك بعضهم بقوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى في صدور الكبيرة عنه من وجهين ؛ الأول : أن العاصي اسم للذم، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى :﴿ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها﴾ (الجن، ٢٣)، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه، الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشاد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه، وأجيب : بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب، فإنك تقول : أمرته فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في غوى ؛ قال الرازي : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوَّة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة، وقيل : بل أكل من الشجرة متأولاً، وهو لا يعلم أنَّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، فهو كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين أي : يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨
ثم اجتباه ربه﴾ أي : اختاره واصطفاه ﴿فتاب عليه﴾ أي : قبل توبته، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة ﴿وهدى﴾ أي : هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف.