أي : يبين بياناً يقود إلى المقصود ﴿لهم﴾ أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم أعظم رسلي، وفاعل يهد مضمون قوله :﴿كم أهلكنا﴾ وقال أبو البقاء : الفاعل ما دل عليه أهلكنا أي : إهلاكنا، والجملة مفسرة له، وقال الزمخشري : فاعل لم يهد الجملة بعده يريد : ألم يهدلهم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله تعالى :﴿وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين﴾ (الصافات : ٧٨، ٧٩)، أي : تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكم خبرية مفعول أهلكنا ﴿قبلهم من القرون﴾ أي : بتكذيبهم لرسلنا حال كونهم ﴿يمشون﴾ أي : هؤلاء العرب من أهل مكة وغيرهم ﴿في مساكنهم﴾ أي : في سفرهم إلى الشام، ويشاهدون آثار هلاكهم ﴿إن في ذلك﴾ أي : الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة ﴿لآيات﴾ عظيمات بينات ﴿لأولي النهى﴾ أي : لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي. ولما هددهم بإهلاك الماضين ذكر سبب التأخير عنهم بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
ولولا كلمة﴾
أي : عظيمة قاضية نافذة ﴿سبقت﴾ أي : في أزل الآزال ﴿من ربك﴾ الذي عودك بالإحسان بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة فإنه يعامل بالحلم والأناة ﴿لكان﴾ أي : العذاب ﴿لزاماً﴾ أي : لازماً أعظم لزوم لهم في الدنيا مثل ما نزل بعاد وثمود، ولكن نمدُّ لهم لنرد من شئنا منهم، ونخرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، وإنما فعلنا ذلك إكراماً لك ورحمة لأمتك، فيكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله ﷺ "وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً"، وفي رفع قوله تعالى ﴿وأجل مسمى﴾ وجهان ؛ أظهرهما : عطفه على كلمة أي، ولولا أجل مسمى لكان العذاب لازماً لهم، وهذا ما صدَّر به البيضاوي، والثاني : أنه معطوف على الضمير المستتر في كان، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد، واقتصر الجلال المحلي على هذا، وجوَّزه الزمخشري والبيضاوي، وفي هذا الأجل المسمى قولان ؛ أحدهما : ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب، وهو يوم بدر، والثاني : ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب، وهذا كما قال الرازي أقرب قال أهل السنة تعالى بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله، ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إما قديمة، فيلزم قدم الفعل، وإما حادثة، فيلزم افتقارها إلى علة أخرى، ويلزم التسلسل، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه ﷺ بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر، فقال :
﴿فاصبر على ما يقولون﴾ لك من الاستهزاء وغيره، وهذا كان أول الأمر، ثم نسخ بآية القتال ﴿وسبح﴾ أي : صل، وقوله تعالى :﴿بحمد ربك﴾ حال أي : وأنت حامد لربك على أنه وفقك لذلك، وأعانك عليه ﴿قبل طلوع الشمس﴾ صلاة الصبح ﴿وقبل غروبها﴾ صلاة العصر ﴿ومن أناء
٥٤٣
الليل﴾
أي : ساعاته ﴿فسبح﴾ أي : صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى :﴿وأطراف النهار﴾ معطوف على محل من آناء المنصوب أي : صل الظهر ؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس : دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل : المراد الصلوات الخمس والنوافل ؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين.
وأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، فبقي قوله : ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار للنوافل، وقال أبو مسلم : لا يبعد حمل التسبيح على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
فإن قيل : النهار له طرفان، فكيف قال : وأطراف النهار، ولم يقل : طرفي النهار أجيب بوجهين أظهرهما : أنه إنما جمع لأنه يلزم في كل نهار ويعود، والثاني : أن أقل الجمع اثنان، وقرأ قوله تعالى ﴿لعلك ترضى﴾ أبو بكر والكسائي بضم التاء أي : ترضى بما تنال من الثواب كقوله تعالى :﴿وكان عند ربه مرضياً﴾ (مريم، ٥٥)، وقرأ الباقون بفتحها أي : ترضى بما تنال من الشفاعة قال تعالى :﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ (الضحى، ٥)، وقال تعالى :﴿عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً﴾ (الإسراء، س٧٩)، والمعنى : على القراءتين لا يختلف ؛ لأن الله تعالى إذا أرضاه، فقد رضيه، وإذا رضيه، فقد أرضاه، ولما كانت النفس ميالة إلى الدنيا مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها قال تعالى مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك :


الصفحة التالية
Icon