﴿ونضع الموازين القسط﴾ أي : ذوات العدل ﴿ليوم القيامة﴾ أي : فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل : وضع الموازين تمثيلاً لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزاناً حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه ثم أفاق فقال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، قال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة فإن قيل : كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض ؟
أجيب : بأن فيه طريقين ؛ أحدهما أن توزن صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة و الثاني أن توضع في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل : هذه الآية يناقضها قوله تعالى في الكفار :﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ (الكهف، ١٠٥)
أجيب : بأن المراد منه أنا لا نكرمهم ولا نعظمهم ﴿فلا تظلم نفس شيئاً﴾ أي : من نقص حسنة أو زيادة سيئة ﴿وإن كان﴾ أي : العمل ﴿مثقال﴾ أي : وزن ﴿حبة من خردل﴾ أو أصغر منه وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وقرأ نافع برفع اللام على أنّ كان تامّة والباقون بالنصب وكذا في لقمان ﴿أتينابها﴾ أي : بوزنها ولما كان حساب الخلائق كلهم في كل ما صدرمنهم أمراً باهراً للعقل حقره عند عظمته فقال :﴿وكفى بنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿حاسبين﴾ أي : محصين في كل شيء، فلا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أن لا يروج عليه شيء من خداع، ولا يقبل غلطاً ولا يضل ولا ينسى إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس وشوب منقص ووعد من جهة أنه مطلع على حسن قصد وإن دق وخفي. ولما تكلم سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم
٥٦١
السلام تسلية لرسوله ﷺ فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض وذكر منها عشراً : القصة الأولى : قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٠
ولقد آتينا موسى وهرون﴾ أي : أخاه الذي سأل ربه أن يشدّ أزره به ﴿الفرقان﴾ أي : التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام ﴿وضياء﴾ بهاء لا ظلام معه أي : ليستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهل وقرأ قنبل بعد الضاد بهمزة مفتوحة ممدودة والباقون بياء بعدها ألف ﴿وذكراً﴾ أي : عظة ﴿للمتقين﴾ أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل الفرقان النصر وقيل فلق البحر ويراد بالضياء على هذين التوراة، ثم بيّن المتقين بوصفهم بقوله تعالى :
﴿الذين يخشون﴾ أي : يخافون خوفاً عظيماً ﴿ربهم﴾ أي : المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان ﴿بالغيب﴾ عن الناس أي : في الخلاء عنهم أو بالغيب قبل أن يكشف لهم الحجاب في الجنة ﴿وهم من الساعة﴾ التي توضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ومباعد عن كل ضير ﴿مشفقون﴾ أي : خائفون لأنهم لقيامها متحققون ولنصب الموازين فيها عالمون، ولما ذكر تعالى فرقان موسى عليه السلام وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به حثهم على كتابهم هو أشرف منه بقوله تعالى :
﴿وهذا﴾ أي : القرآن وأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم ﴿ذكر﴾ أي : موعظة ﴿مبارك﴾ أي : كثير خيره ﴿أنزلناه﴾ على أشرف الرسل محمد ﷺ وقوله تعالى :﴿أفأنتم له منكرون﴾ أي : جاحدون استفهام توبيخ، القصة الثانية : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿ولقد أتينا﴾ بما لنا من العظمة ﴿إبراهيم رشده﴾ أي : صلاحه وهداه ﴿من قبل﴾ أي : من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله وسلم عليهم وقيل : من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال : إني وجهّت وجهي ﴿وكنّا به﴾ ظاهراً وباطناً ﴿عالمين﴾ بأنه أهل لما آتيناه لأنه جبلة خير جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق والخصال يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه، وفي ذلك إشارة إلى أنه فعله تعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.