وتعليق ﴿إذ قال﴾ أي : إبراهيم ﴿لأبيه وقومه﴾ بعالمين إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضا لنا نصرناه وهو وحده على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، ثم ذكر مقول القول في قوله : منكراً عليهم محقراً لأصنامهم ﴿ما هذه التماثيل﴾ أي : الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح الله جاعلين لها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له وهي الأصنام ﴿التي أنتم لها﴾ أي : لأجلها وحدها مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها ﴿عاكفون﴾ أي : مقيمون على عبادتها فإن قيل : هلا قال عليها عاكفون، كقوله تعالى : يعكفون على أصنام لهم ؟
أجيب : بأن اللام للاختصاص لا للتعدية، ولو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على، ثم إنه تعالى ذكر جوابهم له بما لزم الاستفهام عن السؤال بأنهم
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٠
قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين﴾
فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك فانظر ما أقبح التقليد وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على
٥٦٢
شيء وجادّون في نصرة مذهبهم ومجادلون أهل الحق عن باطلهم وكفى أهل التقليد مسبة أن عبدة الأصنام منهم والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.
ولذا ﴿قال﴾ إبراهيم عليه السلام ﴿لقد كنتم﴾ وأكده بقوله :﴿أنتم﴾ لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل والعطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه :﴿اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ (البقرة، ٣٥)، ﴿وآباؤكم﴾ أي : من قبلكم ﴿في ضلال مبين﴾ فبين أن المقلدين والمقلدين جميعاً منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة لاستناد الفريقين إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع لاستبعادهم أن يكون ماهم عليه ضلالاً بقوا متعجبين من تضليله إياهم.
فلذا ﴿قالوا﴾ ظناً منهم أنه لم يقل لهم ذلك على ظاهره ﴿أجئتنا﴾ في هذا الكلام ﴿بالحق﴾ الذي يطابقه الواقع ﴿أم أنت من اللاعبين﴾ أي : تقوله على وجه المزاح والملاعبة لا على وجه الجد.
﴿قال﴾ عليه السلام بانياً على ما تقديره ليس كلامي لعباً بل هو جد وهذه التماثيل ليست أرباباً ﴿بل ربكم﴾ أي : الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة ﴿رب السموات والأرض﴾ أي : مدبرهنّ القائم بمصالحهنّ ﴿الذي فطرهنّ﴾ أي : خلقهنّ على غير مثال سبق وأنتم وتماثيلكم بما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجرّدة عن الهوى وقيل : الضمير في فطرهنّ للتماثيل قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم ﴿وأنا على ذلكم﴾ أي : الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره ﴿من الشاهدين﴾ أي : الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس لا كما فعلتم أنتم حين اضطرّكم السؤال إلى الضلال، ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٠
وتاللّه﴾
وهو قسم والأصل في القسم الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب ﴿لأكيدن أصنامهم﴾ أي : لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولكن إذا الله سنى عقد شيء تيسراً، ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال :﴿بعد أن تولّوا مدبرين﴾ أي : بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة : إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال :{إنا
٥٦٣


الصفحة التالية
Icon