سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}، وقال السدّي : كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا : إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء : ألا تأكلون ؟
فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٠
﴿فجعلهم جذاذاً﴾ أي : فتاتاً وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها ﴿إلا كبيراً لهم﴾ فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان ﴿لعلهم﴾ أي : هؤلاء الضلال ﴿إليه﴾ أي : إبراهيم ﴿يرجعون﴾ عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال ﴿قالوا من فعل هذا﴾ الفعل الفاحش ﴿بآلهتنا إنه لمن الظالمين﴾ حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام
﴿قالوا﴾ أي : الذين سمعوا قول إبراهيم وتاالله لأكيدنّ أصنامكم ﴿سمعنا فتى﴾ أي : شاباً من الشباب ﴿يذكرهم﴾ أي : يعيبهم ويسبهم ﴿يقال له إبراهيم﴾ أي : هو الذي نظنّ أنه صنع هذا، فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه
﴿قالوا فأتوا به﴾ إلى بيت الأصنام ﴿على أعين الناس﴾ أي : جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب ﴿لعلهم يشهدون﴾ عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه : لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به، فلما أتوا به
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٤
قالوا﴾ منكرين عليه ﴿أأنت فعلت هذا﴾ الفعل الفاحش ﴿بآلهتنا يا إبراهيم﴾.
تنبيه : هنا همزتان مفتوحتان من كلمة فالقرّاء الجميع على تحقيق الأولى، وأمّا الثانية فيسهلها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وهشام بخلاف عنه وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو والباقون بتحقيقهما وعدم الإدخال بينهما.
ثم ﴿قال﴾ إبراهيم متهكماً بهم وملزماً بالحجة ﴿بل فعله كبيرهم﴾ غيرة أن يعبد معه من هو دونه وتقييده بقوله :﴿هذا﴾ إشارة إلى الذي تركه من غير كسر، ولما أخبرهم ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل تسبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال :﴿فاسألوهم﴾ أي : عن الفاعل ليخبروكم به وقوله :﴿إن كانوا ينطقون﴾ أي : على زعمكم أنهم آلهة يضرّون وينفعون فيه تقديم جواب الشرط أي : فإن قدروا على النطق
٥٦٤
أمكنت عنهم القدرة وإلا فلا، فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك. روي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :"لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة : هذه أختي"، وقال في حديث الشفاعة، ويذكر كذباته أي : إنه لم يتكلم بكلمات صورتها صورة الكذب وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات، وقيل في قوله : إن سقيم أي : سأسقم، وقيل سقيم القلب أي : مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي : في الدين وقوله بل فعله كبيرهم هذا ؛ روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ويقول : معناه بل فعله من فعله، وقوله : كبيرهم هذا مبتدأ وخبر قال البغوي : وهذه التأويلات لنفي الكذب، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسف عليه السلام حتى نادى مناديه فقال :﴿أيتها العير إنكم لسارقون﴾ (يوسف، ٧٠)
ولم يكونوا سرقوا، وقال الرازي : الحديث محمول على المعاريض، فإن فيها مندوحة عن الكذب، أي : تسمية المعاريض كذباً لما أشبهت صورتها صورته، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمزة، وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وبعدها همزة مفتوحة، وقيل : الوقف على بل فعله، ثم يبتدىء بقوله : كبيرهم هذا.